
من أخلاق القوم!
أعوذ بالله، بسم الله، إن وليي الله
***************
من أخلاق القوم!
***************
إنَّ من أخلاق من تربّوا على يدي الشيخ الخديم – رضي الله عنهم – سلامةَ الصدر ونية الخير لكل مؤمن؛ فكانوا يحبون لغير إخوانهم في الطريقة ما يحبون لأنفسهم، ويختلفون إلى زيارتهم، ويكدُّون في خدمتهم، وإيصال النفع إليهم، ولا يذكرونهم إلا بخير، ولا يجدون غضاضةً في الثناء عليهم، والإشادة بفضلهم، والأمثلة ساطعة، والدلائل نائرة وناصعة.
كانت لهذه التربية التي تلقاها أولئك من الشيخ الإمام – قدس الله سره – أثرٌ بالغ في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم؛ فكانوا يؤمنون أنَّ الانتماء إلى الإسلام فوق كل انتماءٍ، وأن المشايخ الصوفية «كلهم قطعاً على الصواب»، وكذلك فلا ينبغي أن يكون اختلاف الطرق والأوراد سبباً للتهامُز والتّلامز والشقاق، أو تَكون وَحدةُ الطريقة شرطاً من شروط الكفاءة في الزواج.
ومن أجل ذلك لم يجدوا حرجاً في معاونة الشيخ الأديب القاضي مجخت كل التِّجاني –رضي الله عنه- في حرثِ أرضهِ، والذي سُرَّ بمقدمهم وحسن مؤازرتهم، حتى امتدحهم بقصيدة فائقة نصها: [من الطويل]
مُربَّوْنَ قَدْ غَضُّوا مِن اَصْواتِهم غَضَّا = كأبصارِهِم حتى يُظَنُّوا معًا مَرْضَى
أرَادُوا أطبَّا أوْ مَسَاكينَ هَمُّهمْ = ذَوُو صدقاتٍ مُقرضُو رَبِّهم قَرْضَا
فَلمَّا أَدَرْنَا بَيْنَنَا الْقَولَ سَاعةً = عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ خِدْمَةً كَبُرَتْ عَرْضَا
فَهَانَ عَلَيْهِمْ عَرْضُهَا وَتَنَاوَلُوا = فُؤُوسًا بِأَيْدِي أَقْوِيَا قَبَضُوا قَبْضَا
فَغَابُوا وَأَصْوَاتُ الْمَعَاول لَمْ تَغِبْ = كَأَسْيَافِ بَدْرٍ يَوْمَ حَقُّ النّبِي قَدْ ضَا
وَأَمُّوا فَلَاةَ الأَرْضِ أَيَّةَ غَيْضَةٍ = كَثِيرَةِ أَشْجَارٍ مُشَقَّقَةِ الْأَعْضَا
وَوَلَّوا حُفَاةً لَمْ يَكُونُوا لِيَعْبَؤُوا = بِحَرٍّ وَشَوْكٍ بَلْ بِمَنْ حُكْمُهُ مُمْضَى
وَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَجْنَبِيَّةً = تُحَاذِيهِ إِلَّا وَهْوَ أَطْرَقَ أَوْ أَغْضَى
وَمَا رَفَعُوا الْأَصْوَاتَ إِلَّا بِذِكْرِهِمْ = وَمَا أَخَّرُوا الْأَوْقَاتَ نَفْلاً وَلَا فَرْضَا
وَتَاللهِ لَوْ أَنَّ الْمُرَبِّيَ قَادَهُمْ = لِيَنْفُوا عَنِ الْأَرْضِ الْعِدَى زَلْزَلُوا الْأَرْضَا
ومن أجل ذلك أيضا لم يتوانَ الشيخ امباكي بوسو في رثاء الشيخين التجانيّين الجليلين الشيخ عبد الله انياس، والشيخ الحاج مالك سه –رضي الله عنهم-، ويشيد بقدرهما النابه، ويقول فيهما: [من الكامل]
يَا ثُلْمَةً فِي دِينِنَا الْإِسْلَامِ = مِنْ قَلْعِ قَرْنَيْ هَامَةِ الْأَعْلَامِ
السَّيِّدَيْنِ الْعَالِمَيْنِ السَّالِكَيْـ = ـنِ الْـمُسْلِكَيْنِ لِحَضْرَةِ الْعَلَّامِ
شَمْسٌ وَشَمْسٌ عَامَ شَمْسٍ غَابَتَا = فَبَكَى الْوَرَى لِتَكَاثُفِ الْإِظْلَامِ
مَنْ لِلطَّرِيقَةِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمَنَا = بِرِ وَالْمَعَارِفِ بَعْدُ وَالْأَقْلَامِ ؟؟؟
أَوْ مَنْ لِحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ إِذَا وَنَتْ = أَفْكَارُ كُلِّ مُدَقِّقٍ مِفْهَامِ ؟
وَا «مَالِكًا» لِلسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ وَالْـ = قُرْبَى وَلِلضُّعَفَاءِ وَالْأَيْتَامِ !
مَا لَيْثُ غِيلٍ مِثْلَُ «عَبْدِ اللهِ» فِي = يَوْمِ الْحُرُوبِ الْبَاسِلِ الْمِقْدَامِ
لَوْ أَنَّ نَفْسًا مِنْ حِمَامٍ تُفْتَدَى = لَفَدَاكُمَا أَلْفٌ مِنَ الْآنَامِ
لَكِنَّهُ حَتْمٌ وَقَدْ أَبْقَيْتُمَا = ذِكْرًا جَمِيلًا وَالثَّنَاءَ السَّامِي
فَجُزيتُمَا عَنَّا وَعَنْ نَفْسَيْكُمَا = بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَالْإِكْرَامِ
وتتجلى سلامة صدرهم من التعصب ونحوهِ في أبهى صُورها، للناظر في كتاب الإمام الشيخ محمد البشير امباكي – رضي الله عنه – المسمَّى بـ«منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم»، فتراه مثلًا راقيًا في التجرد والموضوعيةِ والإنصاف، فلا يهمز ولا يلمز ولا يغمز، بل يُحلِّي المشايخ التجانية والقادرية وغيرهم بأحسن النعوت والأوصاف، ويطنب في ذكر فضلهم ومناقبهم، ومن ذلك قوله:
– «منهم العالم العبد الناسك الحاج مُحَمَّدُ دَرَامِهْ، شاب نشأ في التُّقى من صوفيّة زمنه ومن أهل السياحة، …. وكان ثقة عدلا ناسكا لا يفتر عن العبادة»(2/358)
– « ومنهم سِيدِ خُويَهْ الكُنْتِي، وكان عالما وفقيها مسموع الكلمة في كَجُور» (2/358)
– « ومنهم العالم الكبير، والفقيه الجليل، قرين الشيخ الوالد في مدرسة بَمْبَ في سَالُمْ ، الشيخ مَدُمْبِ مَارْ سِل إمام طَيْبَ دَخَّارْ… »(2/359)
– «ومنهم الشيخ العلاّمة، الشهم العظيم الهمّة، حَبِيبُ اللهِ بَلَّ سُخْنَهْ» (2/359)
– «ومنهم الحاج النبيل، ذو الأخلاق الذّكيّة، والسيرة السنيّة، عالم سَالُمْ وعلاّمتها والثقة العدل، العظيم في قلوب الأمّة، شيخ العلماء ومن تخرّج عليه الأجلاء في قطره، عَبْدُ اللهِ سِيسِهْ، من أركان التجانية ورؤسائها. أتيته مرارا في جَامَلْ، وأكرمني غاية الإكرام وبجّلني. وهو – رضي الله عنه – متواضع سنّي لا يحب البدع، ولا يرضى الأبّهات، ولا تعجبه المظاهر، إنّما همّه الحقّ والحجّة البيضاء. من أكثر المدرسين تلامذة، ومن أبركهم تدريسا، تخرّج على يديه مدرّسون اشتهروا في الآفاق» (2/360)
– وأحسن من ذلك كله ما قاله في الشيخ الحاج مالك سه – رضي الله عنه – الذي لا يكفّ سُفهاء الطريقتين المريدية والتجانية في المفاضلة بينه وبين الشيخ الخديم – رضي الله عنهما -، فكأنّهما – في نظرهم – الداحس والغبراء!
يقول فيه الشيخ محمد البشير: «ومنهم ممّن عاصروه من أهل جلدته أيضا العالم الجليل والشيخ الفخيم الحَاجْ مَالِك سِهْ مجدّد التجانية في هذا القطر وإمامها، السنيّ الورع، أحد أئمة المسلمين وجهابذة الصّالحين. فإنّه كان أسنّ من شيخنا، بل أسنّ من أخ شيخنا مُحَمَّدٍ شقيقه الذي هو أكبر. وقد جرت بينهم عرى الأرحام المتقاربة، فإن والد الشيخ الحَاجْ مَالِكْ سِهْ ابن أخت الشيخ الوالد، أب شيخنا. وكانت هذه الرّحم موصولة من الطّرفين، وكانت المراسلة بينهما دائمة والبراوات، لا تحدث حادثة لها بال عند أحدهما إلاّ ويرسل لآخر إعلاما، وكانا متصافيين. زاره شيخنا في قرية انْجَارِندِهْ في كَجُورْ، لبث ضيفا له مدّة غير طويلة، وركب الحَاجُ مَالِكْ لتشييعه مسافة طويلة، وتهاديا مرّات، أذكر من بينها كتابا أهداه له الحَاجُ مَالِكْ سِهْ مع بيتين وهما: [الرجز]
هَدِيَّةٌ مُوجِبُهَا اجْتِلاَبُ = مَحَبَّةٍ يَا أَيُّهَا الحُبابُ
أَدَاَمَ رَبُّنَا لَنَا حَبْلَ الوِصَالْ = وَكَفّنَا شَرَّ الذِي عَادَى وَصَالْ
فأجابه شيخنا [الخديم] ببيتين هما:[الرجز]
جَزَاكُمُ خَيْرَ الجَزَا الوَهَّابُ = وَفِي صَفا الوِدَادِ لاَ تَرْتَابُوا
فَكَيْفَ لاَ وَالمُصْطَفَى المُجَابُ = إِمَامُنَا وَالقِتْلَ لاَ نَهَابُ
ولم تنقطع المراسلة بينهما بعد غيبته إلى البحر، إلى أن توفّي الشيخ الحَاج مَالِكْ قبلَه… وأتيته مرارا في منزله (بالمدينتين) انْدَرْ و تِوَاوُنْ، وكان يكرمني غاية الإكرام ويسألني عن شيخنا وسائر الأقارب، ويبشّ في وجهي كما هي العادة في عباد الله الصّالحين»(2/359-260).
فتلكم نصوصٌ سردتها سرداً، لأبين ما ربّى عليه سيدي الشيخ الخديم – رضي الله عنه – مريديه، من سخاوة نفس وسلامة صدر ونية الخير لكل مؤمن، فلا ينتقصون أحداً ولا يبخسونهُ قدره، وتلك المعاني والأخلاق مبثوثة في كتبهِ ووصاياه، وحسبك منها قوله:
وَلَازِمُوا حُبَّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَا = وَالْأَوْلِيَا وَمَنْ يُطِيعُ رَبِّيَا
وقوله: «وَأَمَّا أَحْزَابُ الْأَقْطَابِ وَدَعَوَاتُ الصَّالِحِينَ، فَأَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعًا فِي الْعَمَلِ بِكُلِّ مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُ».
وقوله:
فَكُلُّ وِرْدٍ يُورِدُ الْمُرِيدَا = لِحَضْرَةِ اللهِ وَلَنْ يَحِيدَا
سَوَاءٌ انتَمَى إِلَى الْجِيلَانِي = أَوِ انتَمَى لِأَحْمَدَ التِّجَّانِي
أَوْ لِسِوَاهُمَا مِنَ الْأَقْطَابِ = إِذْ كُلُّهُمْ قَطْعًا عَلَى الصَّوَابِ
فَكُلُّهُمْ يَدْعُو الْمُرِيدِينَ إِلَى = طَاعَةِ رَبِّ الْعَرْشِ حَيْثُمَا جَلَا
بِالِاسْتِقَامَةِ فَلَا تَسْخَرْ أَحَدْ = مِنْهُمْ وَلَا تُنكِرْ عَلَيْهِمُ أَبَدْ
وأما ما بين أتباع الطريقتينِ المريدية والتجانية اليومَ من شِقاق وعداوةٍ ومنافرة وتهامز وتغامز فبدعٌ أُحدثت، سببها: الجهل، والهوى، وفرح كل طريقةٍ بما لديها، والخطابُ الطرقيُّ الطائفيُّ الذي يُسمع كثيراً من بعض «المشايخ» الذين لا يشفون غليلهم عند الكلام عن مناقب شيخهم أو جدِّهم إلا إذا جعلوا قدمه على رقبة كلّ وليٍّ، وأدخلوا في عِمامتهِ دَرجاتِ السابقين واللاحقين!!!
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
*******
أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي
12رجب 1440هـ 20///03/2019م