
لحظة تجاوز ! بقلم عبد الرحمن بشير
لحظة تجاوز ! بقلم عبد الرحمن بشير .
…………………………………………………
لقد كثر الحديث عن الشرك التقليدي ( شرك عبادة الأحجار ) ، كما تناول علماء السعودية وطلبتهم ( شرك عبادة القبور ) ، وهناك من يتحدث عن ( شرك عبادة الصالحين ) ، ولكن دائما هناك خلط بين الإحترام والعبادة ، فالمسلمون يحترمون الصالحين ، ولا يعبدونهم .
إن المشكلة هي التوقف عن فهم الشرك الحقيقي ، وهو أن تمنح حق الله فى الأمر والخلق لأحد من خلقه ، وهذا المفهوم الشامل للشرك تم تغييبه فى الدراسات العقدية المعاصرة ، فلا حديث عن ( شرك القصور ) ، وهو أخطر من شرك ( الأحجار ) فالحجر ليس له حكومة تدافع عنه ، وتجاوز العقل العلمي عبادة الحجر ، ولكن المشكلة فى عبادة ( القصور ) ، ومن هنا وجدنا يوسف عليه السلام يربط بين توحيد العبادة ، وتوحيد الحكم قائلا ( إن الحكم إلا لله ، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
استمعت إلى كلمة لأحد العلماء فى جيبوتى عن الشرك ومظاهره فى العصر الحديث ، فوجدت ذلك الكلام كله منطلقا من التاريخ ، ولَم يتحدث عن الشرك ( السياسي ) بمظاهره العديدة ، ولَم يتناول فى كلامه الطويل المكرر عن الشرك ( المالي ) ، كما أنه لم يتحدث عن أهم مهدد للعقيدة فى العصر الحديث وهو ( الخروج الممنهج ) من الدين ، وهو ما يقال عنه فى اللحظة المعاصرة ( الإلحاد المنهجي ) ولعله لم يتابع بعد عن هذا الملف الخطير فى العصر الحديث .
وجدت هذا الشيخ مغيبا فى التاريخ ، وغائبا عن الواقع ، وأطال الكلام عن التوحيد كما تحدث عنه ابن تيمية ، ولكنه نسي أن ابن تيمية واجه مشكلة فى زمنه ، ونحن اليوم نواجه مشكلات عقدية غير معروفة لابن تيمية ، ولا لغيره من علماء العقيدة ، ومن هنا نؤكد أننا يجب أن نستفيد من منهجية العلماء فى مواجهة المشكلات العقدية ، وليس من مفردات منهجهم ، بل من المنهج ذاته ، فهناك المنهج الأشعري فى مواجهة الإلحاد فى زمنهم ، وهناك المنهج التيمي فى مواجهة الإنحراف العقدي فى لحظته ، ولكن ليس من المناسب أن نختار المفردات ، وقد انقرض أهلها ، وانسحبوا من التاريخ .
إن الحديث عن العقيدة بلغة باردة هي منهج الفلاسفة ، والحديث عنها بلغة العاطفة هي منهج الوعاظ ، والحديث عنها بلغة العقل فقط هي منهج المفكرين ، ولكن الحديث عنها بلغة علمية ومنطقية ، وقوية من حيث الأدلة ، وسهلة من حيث الأداء اللغوي ، وعميقة من حيث التفاعل مع القلب والعقل معا ، وموضوعية من حيث النقاش مع الخصم ، فهذا من خصائص اللغة القرآنية ، فهي تجمع ما بين الشمولية فى الطرح ، والموضوعية فى الحوار مع الخصم ، والقوة فى الطرح ، ولهذا أصبح منهج القرآن فى العقيدة خالدا ، ومتجاوزا للزمان والمكان .
هناك شرك بسيط لبساطة الانسان فى البادية ، أو الإنسان ما قبل الحداثة ، وهناك شرك مركب ومعقد لتركيب الانسان وتعقيداته فى الدول المتحضرة ، فالعقيدة واحدة ، ولكنها تتمظهر بأشكال مختلفة لتباين الإشكاليات فى البلاد المختلفة ، فالحديث عن عقيدة بسيطة فى المجتمعات ما بعد الحداثة سذاجة ، ولا أحد يفهم ما يقول ذلك العالم ، فهناك قوانين كبرى فى السوق ، صارت آلهة فى عالم ما بعد الحداثة ، وهناك أصنام سياسية كبيرة فى العالم تعبد من دون الله ، لانها تمنح الحياة لمن قدم لها القرابين ، وهناك أوثان مالية ، ولكن ( الجحا ) فى عالم الدعوة والوعظ ما زال مغيبا فى التاريخ ، وما زال يحارب الشرك فى العبادة فقط ، ولكنه لا يعرف أن الخطورة اليوم تكمن فى الشرك الفكري والسياسي والمالي .
ليس من المنهجية العلمية أن يقوم الإنسان فى البحث عن مشكلة عقدية انقرضت ، أو بقيت فى الكتب ، وليس لها تأثير ، فالإنسان الباحث يهتم بالقضايا التى تؤخر الإنسان عن التقدم ، أو تجعله فاقدا عن الفاعلية ، وهو ما قام به بحثا الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله فى كتبه الرصينة ، وجميع أبحاثه فى عقيدة المسلم الفاعل ، ولكن لأسباب تاريخية رفض بعض العلماء سابقا تقبّل أفكاره بسهولة ، ولكن ظهر اليوم أن الرجل كان سابقا لزمنه ، ولهذا لم يفهموه .
إنتهى زمن الدجل العقدي ، والحديث عن نواقض الإيمان بلغة التاريخ ، فهذا دور لعب به علماء فى الجزيرة العربية لتنويم الشعوب مغناطيسياً ، وما زال لدينا من يلعب هذا الدور بفهم أو بدون فهم ، وما زالت التمور وراء تخريب العقل الإسلامي .