
من وحي الآلام. بقلم المفتش عبد الأحد لوح
في ذلك اليوم المحفور في ذاكرة الأحزان، تسارعت وتيرة الأحداث، وتطورت نحو أفق اليأس، وتبخرت الآمال بشكل مفاجئ وخطير، مما أفحم الجميع، وأوقعهم في حيرة لم يُفيقوا منها إلا وقد تحققوا من صدمة الواقع المرير ؛ لقد نزلت الكارثة التي كنا نتجنب دائما أن يخطر لنا بالبال، ووقعت المصيبة في خاتمة المطاف على “الأم” التي كنا نعدها جوهرة المحبة ورمز الحنان، وكانت لنا سدا منيعا ضد هموم الدنيا وبلاياها.
إن يوم الاثنين 28 محرم 1440هـ يوم يؤرخ جراح القلب وآلام الروح، يوم سقط فيه القناع المزيف الذي طالما غطى وجه الحياة الدنيا، ليظهر لنا على حقيقته للمرة الأولى عبوسا قمطريرا.
لم أكن أدرك أنني أعيش مع الوالدة اللحظات الأخيرة في حياتها، حين غادرت البيت برفقة الطبيب الذي استدعيتُه -كالعادة-لعلاجها، بعد أن ركَّب في جسدها ما ركَّب من أجهزة طبية، وكتب لها وصفة سلمتُها للأخ الصغير، على أن يتولى شراءها في صبيحة الغد. ولقد جرت العادة في تلك الليالي، أن نتكفل بنقل الطبيب من وإلى المستشفى بسيارة الأخ الكبير، أو بسيارة الأجرة عند الاقتضاء، وفي تلك الليلة تساقطت أمطار غزيرة بعد جلسة العلاج، فانتظر معي الطبيب طويلا، ثم قررت أنا وهو أن نتحدى المطر بحثا عن سيارة الأجرة، فلم نجد شيئا، وظللنا نمشي بالأقدام، والمطر ينزل علينا إلى أن وصلنا إلى المسجد الجامع بمدينة طوبى المحروسة، فركب هو بكل تواضع في سيارات النقل العمومي، على أن يعود في صبيحة الغد لإتمام العلاج بعد شراء الوصفة، واستمررت أنا نحو بيتي الجديد، على أن أغدو إلى مكان عملي، ريثما يتم توفير الأدوية ، وفي ضحوة الغد، كنت أنسق مع الأخ الأصغر” محمد الأمين” لنعمل على شراء الوصفة كما قرر الطبيب، وكانت البنت المكلفة بشراء الأدوية مرهقة بالانتقال من صيدلية إلى أخرى؛ بحثا عن الدواء، وأخيرا وجدت بعد لأي، فلم يبق إلا استدعاء الطبيب للحضور، فحاولت مرارا الاتصال به دون جدوى، وبينما أنا راجع من جولة في المدارس لمراقبة انطلاقة العام الدراسي، رن جرس الهاتف فإذا بأخي الكبير ” محمد الفاضل” على الجهاز، فبادرته بالدعابة لوصف القرية التي نحن على مستواها وهي قرية تثير في نفسه وفي نفسي ذكريات الطفولة في المدرسة القرآنية، فلم يطاوعني على الدعابة كعادته، بل بادر إلى إنزال الصاعقة على قلبي : ” الظاهر أن الوالدة …استراحت…!! ” لم أكن أميل إلى أن اصدق ما سمعت أذناي، فتظاهرت بعدم سماع الخبر، مع أني بدأت الاسترجاع والهيللة، وطلبت منه التحقق جيدا، فأكد أن القضاء المحتوم نزل عليها !! ولقد كان معي في السيارة زملاء مفتشون، فلم أرد أن أخبرهم بما جرى، ريثما يتم التحقق من واقعية الحدث المؤلم، وبدأت أعلق على كلامهم تعليقات باردة قد تقتضي مني المشاركة ببسمات مصطنعة وقلبي المُعَنى يكاد يتفطر، وما إن نزلوا عند المفتشية، حتى طلبت إلى السائق أن يوصلني إلى المحطة؛ لأستقل سيارة إلى طوبى. وفي هذه المرحلة بدأت الدموع تنهمر من عيني ، على غير عادتها، ولكني حاولت إخفاءها عن السائق، وإن كنت أعتقد أنه فهم شيئا ما، والمهم أني نزلت في بيتي الجديد وأخبرت الأهل والأولاد بما جرى، ولا تسل عما كان هناك من الآهات والدموع البرية، قبل أن نركب السيارة إلى بيت الوالدة. ولقد كان من أصعب المواقف التي كنت أتصورها وأنا داخل السيارة ، كيف يمكنني أن ألقي نظرة على جثمان الوالدة بعد أن فارقها الروح، وما إن نزلت من السيارة ورأيت المشهد الرهيب أمام البيت وداخله حتى تضاعفت الدموع المنهمرة من مقلتي وخاصة عندما استقبلني اخي الصغير الذي كنا نتعاون مع سائر الإخوة على رعايتها، وعلى تمريضها. وعند ما دخلت البيت وأثار دخولي ما أثار من ردود أفعال دامعة، توجهتُ بخطى ثقيلة نحو الغرفة المعهودة فرأيت ما لم تر ولن ترى عيني، وتأثرت بالموقف تأثرا بالغا واساني عليه الإخوة مواساة بالغة هدأتني قليلا…ثم بدأنا إجراءات مراسيم الجنازة، وباشرت الأمور أنا وإخوتي الحاضرين وجمع غفير من أقاربنا، وما زالت تلك المشاهد منطبعة في خيالي يحركها المرور بمغسلة الموتى أو زيارة المقابر، أو مجرد التفكير ب”العمة” كما كان جميع أولادها يدعونها؛ تقليدا لإخوتنا من أبينا، ولأبناء عمومتنا الذين كانوا ينادونها جميعا بالعمة؛ بحكم كونها ابنة العم الشقيق للوالد رحمهما الله..
لقد فقدناك يا “عمة” أما تقدرين مسؤولية الأمومة حق قدرها؛ فأديت في حقوقها كاملة غير منقوصة، في أحلك الظروف وأشدها حرجا؛ فلقد فاجأك وفاة والدنا العزيز، قبل عقود من الزمان، تاركا لك صغارا لاحول لهم ولا قوة إلا بالله ، غير أنك تحملت وتسلحت بحسن الصبر والاحتمال، وتحليت بالشجاعة والمروءة لمواجهة تحديات في الدنيا، أدقها ظروف الترمل ورعاية الأيتام وتربيتهم تربية حسنة تؤهلهم لممارسة الأدوار المنتظرة من أفراد طبقتهم الدينية والاجتماعية؛ وكانت الخطوة الأولى لهذا التأهيل حسن الصبر على مفارقة الأولاد الذكور، مدة قد تقصر وقد تطول تبعا لقوة الحافظة التي يتمتع بها كل واحد، ولحالة المدرسة التي يتلقى فيها القرآن. ولئن كنت، يا أماه ، معروفة عند القاصي والداني بالإفراط في حب أولادك إلا أنك صمدت أمام تجربة مفارقتهم واحدا بعد الآخر ، إلى أن أصبح بيتك خاليا من كل أولادك الذكور، وغدوت تعيشين مع ابنتك الوحيدة التي أفلتتْ من موجة وفيات أودت بحياة خمس من بناتك. وما إن تأهلت وحيدتك حتى بدأت بسمات الأمل والرجاء لمع بريقها أمامك عن بعد؛ حين بدأت رحلة عودة أبنائك الحافظين لكتاب الله إلى بيت الأسرة، واحدا تلو الآخر، وفي غضون بضعة أعوام، أسعد الله قلبك فحفظ القرآن عن ظهر غيب جميع أبنائك الستة؛ وفضلا عن ذلك أثبت كل منهم حفظه للقرآن برسم المصحف الشريف مرة واحدة على أقل تقدير، وأكثرهم رسموه مرتين أو أكثر.
وبما أن طموحاتك العلمية لأولادك لا يتصور لها حد؛ فقد دشنت ، يا أماه، مرحلة أخرى من التحمل لتتيحي لأولاده تلقي العلم الشرعي الذي يكمل حفظهم للقرآن، فكان لابد من أن تعيشي في غالب الأحيان بعيدة عنهم حسب موقع المدارس التي يتعلمون فيها؛ فما يئستِ ولا ضجرتِ من طول فترات الدراسة والمفارقة، بل ظللت تصابرين حتى اكتسب جميعهم – بحمد الله تعالى- حظا من العلم والمعرفة لا بأس به.
ومهما أنس فلن أنسى يوم حصلت على منحة في جامعة أم القرى في منتصف 1994م بعد سنة من ممارسة وظيف التدريس في المدارس الحكومية؛ وبقدر ما كنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى لحسم الخيار الملائم، كان كثير من أقربائي ينصحونني -مخلصين- بالتنازل عن المنحة والاستمرار في العمل الحكومي، إلا أنك صارحتني مصارحة حميمة بأن مما يشرفك أن أسافر إلى مكة المكرمة لأواصل الدراسة في أطهر بقاع الأرض، وقد تسلحت بموقفك الصريح لأحسم الموقف وأسافر إلى الديار المقدسة ؛ حيث قضيت خمس سنين، وكنت تشعرين بالسعادة كلها حين أقضي معك الإجازة الصيفية، فتتحدثين معي حول مكة المكرمة، والمدينة المنورة التي كنت تسمينهما ” بلدتنا” في إشارة إلى رحلة الحج التي أديتها عام 1405هـ.
إن في قصة حياتك ما فيها من عبر ودروس ليس لنا أن ننسى مغزاها من علو الهمة، وحسن الصبر والتحمل، والتحلي بالمروءة والوفاء وعزة النفس، وحسن التربية والرعاية، والزهد والقناعة…وقبل هذا، وبعد هذا، الجهاد من أجل ترسيخ توحيد الكلمة وكلمة التوحيد؛ فقد أكرمك الله – وله الحمد والمنة- بأن أبقى راية الوحدة ترفرف على أجواء أسرتك في زمان التفرق والخلاف. أما حرصك على الطاعات، فقد كان مضرب المثل؛ فحتى حين أحاطت بك ظروف الشيخوخة وفعلت بك فعلتها، كان من أصدق أمارات ذلك، مراقبة الوقت بتكرار الوضوء، وتكرار الصلاة والمطالبة بالسبحة. عطر الله ضريحك يا أماه، وجعله روحا وريحانا وجنة نعيم بجوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ….
حرر في طوبى يوم السبت 28 محرم 1441هـ/ 29 سبتمبر 2019م.