
للعشق الإنساني مفهوم ! عبد الرحمن بشير
لا أعشق الوطن ، لأننى ولدت فيه ، فهذا النوع من العشق ليس مفهوما فلسفيا ، وإنما هو مفهوم منطقي من حيث الطبيعة الحيوانية للبشر ، فأنا أعشق الوطن حين يكون الوطن يليق بالعيش فيه كمكان يقدس فيه القيم الإنسانية ، الوطن ليس حجرا يعبد من دون الله ، وليس ذاتا مقدسا لذاته ، ولهذا هاجر رسول الله من مكة ( القرية الظالم ) وذهب إلى المدينة ( المدينة المنورة ) فحرّر مكة ، وجاء إليها فاتحا ، وعادت مدينة مقدسة خرجت من ( الظلم ) ، فلا قداسة للمواقع ، بل القداسة طارئ عليها ، فيزول بزوال القيم ، ويبقى ببقاء القيم ، فالقداسة للقيم ، وليس للأشخاص ، ولا للأحجار ، ولا للمواقع ، هناك أوطان فيه مواطن يوصف بأنه مواطن من الدرجة الثانية فهو ( بدون ) ، وهناك مواطن فى بعض البلدان لا يعيش فيه كمواطن إلا إذا تحوّل حمارا يعيش لأجل بطنه لا يستخدم عقله ، فيستعد للركوب ، البحث فقط عن العلف لأجل العيش ، أي قداسة لهذه الأوطان يا سيدى .
لا أعشق الأشخاص ، لأنهم ولدوا فى التراب الذى ولدت فيه ، أو لأنهم من الشجرة التى أنا أمثل فيها غصنا من أغصانها ، فهذا الإنتماء حيواني ، فالحيوانات تعيش فى حظائر ، وليس من حقها أن تفكر فى داخل الحظائر ، أنا أعشق الإنسان لفكره ، وإذا عشقته فليس هناك حاجز بينه ويبنى ، لن يكون الزمان حاجزا ، ولن يكون الجغرافيا كذلك حاجزا كذلك ، فالفكر رحم يجمع بين المفكرين ، وأهل العقول ، فقد تجد قرابة روحية بينك وبين أمريكي عاش فى القارة الأمريكية قبل الوصول الأوربي إليها ، وقد تجد القرابة بينك وبين إنسان يعيش فى أقصى الدنيا ، ولكنه يعيش مع التجربة الفكرية ، وما أعظم نعم الله علينا فى زمن العولمة ، فنحن نتقاسم جمال الفكر مع أشخاص لم نلتق بهم ، ولكن حين نقرأ لهم نشعر بأن قرابتنا عميقة .
لا أعشق الفنان لأجل فنه ، أو لأنه فنان فقط ، ولديه شغف بالغناء ، أو كتابة القصة ، أو غيرهما ، فأنا لدي ميل غير عادي للفن بشتى أشكاله ، ولكنى لست فنانا بالمعنى الضيق ، ولا بالمعنى العدمي ، فأنا أعشق الريشة التى تحارب الباطل ، وتواجه الإستكبار ، وتفتّد أدلة الفساد ، لدي عشق بلا حدود للجمال الهادف ، وللكتابة الرصينة ، فالفنان الذى يقول الحق بأسلوب جميل ورائع محبوب ، والفنان الذى يملك جمالا بلا روح تكرهه الفطر السليمة ،فهو بلا قواعد بشرية ، وليس له أرصدة فى قلوب الناس .
لا اعشق العيش فى الغربة بعيدا عن الوطن والأهل ، ولكنى لا أعشق أيضا العيش فى الوطن ومع الأهل قابلا للإستبداد ، فالعيش للعيش جريمة أخلاقية إنسانيا ، والقبول للظلم بدون مقاومة ولو من القلب جريمة إنسانية ، من منح حريته للآخر يفعل بها ما يشاء فليس إنسانا ، ومن اختار الذل لأجل مصالح غيره فقد تنازل من إنسانيته ، ومن عمل لصالح غيره على حساب حريته وكرامته فقد اختار الإهانة .
لا أعشق الكتاب لأجل الكتاب ، ولكنى، أعشق المعرفة ، ولهذا يبقى الكتاب أهم شيء فى حياتى ، فالمعرفة زادنا ، والعلم مفتاح نهضتنا ، والفكر يمثل هويتنا البشرية ، فنحن كبشر كائنات مفكرة ، ولسنا عجماوات مخلوقة للعلف ، تبحث حينا الحليب ، وتُحبس عنها حينا آخر لتبحث عنه فيما وراء الحدود ، فالعيش بعيدا عن الكتاب والقراءة تجعلك قريبا من عالم الحظائر والحيوانات .
لا أعشق أن أكون متدينا بلا روح ، فالتدين ليس هدفا ، ولكن الهدف هو الإنسان ، فالله ليس بحاجة إلى تديننا ، فهو الغني عن عبادتنا ، ولا تضره معصية العاصين ، ولكن الدين فى جملته حين يكون الدين وحيا صحيحا يعمل فى إسعاد البشر فى الدنيا والآخرة ، والعز بن عبد السلام ذكر بأن الهدف هو العمل فى إسعاد العباد فى العاجل والآجل ، ولكن البعض منا حوّل الدين إلى مفاهيم غير مفهومة ، وطقوس غير معقولة ، ولهذا لا أعشق هذا النوع من التدين .
لا أعشق الوعظ حين يتحول إلى وعظ مرتبط بمناسبات إجتماعية ، فالموت يخيف لذاته ، ولحظة الميلاد فرحة لذاتها ، والعرس مشروع فرحة لذاته ، ولكن بعض الناس يحوّلون تلك اللحظات إلى مشاريع وعظية ، لأنهم يريدون تحويل الدين إلى تقاليد ، ومن هنا يسقط الدين من الهيبة ، فيصبح ألعوبة فى يد الوعاظ ، فقد رأيت من بعض الناس يطالبون من الواعظ كلمة ، ولكنهم يريدونها واحدة لا تتغير ، فإن كنت فى جنازة تتحدث فقط عن الموت ، ولماذا لا تتحدث عن الحياة بمناسبة الموت ، فالموت مرحلة من مراحل الحياة ، وليست مرحلة نهاية كما يحسب الكثير من الناس ، فلست عاشقا للحديث عن المناسبات ، ومع هذا فالناس يْكرهونك عن الحديث ، وكأن الإسلام خرج من التفاعل مع الحياة ، وبقي له الحديث عن الزواج والموت فقط ، فهذا النوع من الوعظ تكريس بدون شعور من أهله فى إخراج الدين من التفاعل ، فيصبح الإسلام دينا سائلا كالحداثة السائلة بتعبير زيجمونت باومان .
لا أعشق الحياة لذاتها ، فهي بلا نكهة حين تكون بدون محتوى ، ولكنى أعشق الحياة لغيرها ، فهي مجال للإبتلاء ، وهنا يظهر المعدن الحقيقي لكل إنسان ، فلولا السجن ما عرفنا قيمة يوسف عليه السلام ( إنا نراك من المحسنين ) ، ولولا السجن لما ظهر لنا قيمة ( مانديلا ) العاشق للحرية ، ولولا التفاعل والتدافع لما كان للحياة معنى ، ولولا أبوجهل ما عرفنا قيمة عمر بن الخطاب ، ولولا جمال عبد الناصر لم يظهر للأمة قامة كقامة سيد قطب ، ولولا الإستعمار الغربي ما عرفنا أفكار مالك بن نبي ، ولولا ترامب لم تظهر للأمة عورات آل سعود بوضوح للعامة والسذج ، ولولا الحرب فى اليمن لم يعرف الناس بشكل واضح للجبهات المتقاتلة فى المنطقة ، ولولا الثورات العربية لم يعرف الشباب فى المنطقة مدى وجود وقوة الدولة العميقة ووظيفتها للخارج .
لقد عرفت بعمق معنى قوله تعالى ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا . إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا ) ، فالحياة ليس لأجل الحياة ، بل هي لغيرها ، ولهذا كانت محل ابتلاء ، وقليل من العباد يفهمون السر ، ولهذا يصبحون صناع التاريخ ، ووحدت من خلال التأمل تساقط الممثلين من الحياة ، فكم من ظاهرة تجلّت قبل الثورة ، وكأنها ظاهرة دعوية جديدة ، ولكنها انسحبت من الحياة سريعا ، فهذا من سنة الله ، وكم من لحية طويلة سقطت بدون رجوع ، وكم من صاحب قناة كثير البكاء ، قليل التفاعل مع قضايا الأمة سقط فى أول تجربة مع ما بعد الثورة ، وكم من رجل كتب ( صناعة الحياة ) ، وأصبح موجودا فى كل القنوات ، ولكنه فى أول الإمتحان طار بلا عودة ، فالمسألة ليست بقدر ما تقدم من كلام معسول ، ولكن بقدر ما تقدم من أفكار جديدة ، ومن قناعات تغير العقول ، والصبر على المواقع ، فالتمثيل عمره ليس طويلا ، والتجربة تؤكد ذلك .
ما زلت عاشقا لأفكار مالك بن نبي ، فقد فتح لى نافذة فى فهم الظاهرة الإنسانية المعقدة ، وقرأت من خلالها ظاهرة ( الإستبداد ) ، فالإستبدد فى أوطاننا ليس ظاهرة سياسية ، بل هو أعمق من ذلك بكثير ، فهو ظاهرة ثقافية ، ولهذا تشكو هذه الأمة منذ أمد بعيد ( القابلية ) للتمثّل ، وقديما تحدث الفقهاء بأن الناس على دين ملوكهم ، وما زال البعض يردد هذه الكلمة بدون إعمال للعقل فى فهمها ، فهل العبارة تحمل فى طياتها شيئا من الصحة ؟ أم هي جزء من ثقافة المنطقة ؟
فى الغرب وجدت أن الملوك على دين شعوبهم ، فالشعوب هي التى تقرر دينها فى الحكم ، ولكننا نحن ما زلنا أطفالا يقرر لنا الحكام ديننا ، ولهذا نوكد أن النخب من المفكرين والعلماء ما زالوا بعد جزءا من الخريطة ، فيقولون ويقررون الواقع كما هو دون تشريح حقيقي لهذا الواقع ، من صنع هذه البيية الثقافية ؟ وكيف يجب أن نغير ؟ فلا يمكن لنا أن نغير حتى نغير فى عالم الأفكار ، وهنا يكون مالك بن نبي عظيما ومختلفا .