السياسةالعمل والمستجدات

لكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَـمَّ نُقْصَانُ.. وطويت صفحة أخرى من تاريخ السنغال..

لقد عودنا التاريخ أن القامات الفكرية والثقافية الشامخة حين ترحل عن دار الفناء لا تترك وراءها فراغا محضا، بل تترك للأجيال القادمة بصمات ومعالم لا تمحى،. ولا يعزب عن ذي بال أن الشخصية الإسلامية التي رحلت عنا اليوم كانت من هذا الطراز،. لقد خلَّف رحيل الأيتاذ محمد بمبا انجاي وراءه بصمات مُشْرِقَةً ومُشَرِّفَةً على أصعدة وميادين شتى. دينية، وثقافية-فكرية، وسياسية، ولولا مخافة الحشو والإطالة، لسردت كل هذه الجوانب بإسهاب، ولكن. سأكتفي في هذه المقالة بإبراز بعض هذه البصمات بشكل وجيز وغير مُخِلٍّ:

الأولى: أن المرحوم الأستاذ مُحمَّد بَمْبَا انْجَايْ الجُلَفِيَّ الموطن يُجسد حقيقة أكدتها البحوث العلمية، تتمثل في أن الحكم على العلماء والمفكرين يكون بحسب أطوار حياتهم: الشبابية، الكهولية والشيخوخة. فيتم تقييمهم طورا تلو آخر، مرحلة تلو أخرى. ذلك لأن المفكر الباحث قد يجد نفسه في وقت ما أنه تعثر أو أنه تنحى عن الجادة، فينقلب من حال إلى آخر، من مذهب إلى آخر، من شك إلى اقتناع، من لين إلى شدة، وهلم جرا. وفي تاريخنا الفكري الإسلامي يعتبر أبو حامد الغزالي الملقب بـ “حجة الإسلام” خير مثال حيث يرى أن “الإنسان مراحل وأطوار”. فمع كرِّ الجديدين قد ينمو فكره وينضج أو ينحدر وينتكس،. فمن له خلفية عن سيرة الرجل – رحمه الله تعالى – يُدرك بكل جلاء أنه خير مثال للمثقف السنغالي المستعرب الذي عاد إلى وطنه الأصلي بعد رحلة – قصيرةً كانت أو طويلةً – قضاها في العالم العربي، لاكتساب مزيد علم وخبرة وشهادة،. لقد أظهر المرحوم، مع مرور الزمن قدرته الفائقة على التأقلم مع واقعه السنغالي الجديد. فمن المعلوم أن كثيرا من المستعربين قد تتصادم حصيلتهم العلمية والثقافية مع الموروث الاجتماعي والثقافي. وهذا صراع قديم ودائم، معروف في مجال الفكر بثنائيات “القديم والجديد”، “الأصالة والتجديد”، ويمكننا القول إن أستاذنا استطاع بحنكة وجدارة أن يبرم علاقات أخوية وودية مع سائر الأطياف المحلية، ذلك بعد أن مرَّ بمرحلة يمكن وصفها بأنها “شبابية حماسية” على غرار كتيبة من المستعربين إبان شبابهم. لعل انخراطه في سلك “جماعة عباد الرحمان” قد ساعده في تَبَنِّي موقفٍ وسطيٍّ تجاه الموروث الصوفي المحلي، ذلك لأن هذه الجماعة، بخلاف بعض التيارات التي برزت على الساحة مؤخرا، عُرفت باعتدالها ووسطيتها في منهجها تجاه تركة الآباء المؤسسين، أعني التيار الصوفي. لقد آثرت هذه الجماعة حسن الجوار والمداراة على الصدام والتعارك، رغم وجود خلاف بيِّنٍ بينهما من منظور منهجي. ويا ليت بعض الجماعات المحلية استلهمت من هذه الطائفة طريقتها في التعامل مع الآخر المخالف. رحم الله فقيد الأمة وقدّس ثراه.
الثانية: يُعدُّ الأستاذ محمد بمبا انجاي – مِنْ غير نكيرٍ – مِنْ جُملة المثقفين المستعربين الناجحين بكل معنى الكلمة، الذين صنعوا شخصياتهم بفضل جهودهم وهندسوها على قوالب تسع هندامهم. فمنذ نعومة أظفاره وهو يَكدُّ ويجِدُّ، لم يعرف للفتور والخمول سبيلا، لذلك لم يشم، طيلة ركضه في معترك الحياة، نسيم الراحة والاسترخاء، أدركته المنية وهو يسير قُدما على درب النضال، لا يخاف في الله لومة لائم. المنصف يرى أن عرق جبينه لم تذره الرياح ولم يذهب هباء منثورا، لقد قلَّد أستاذنا المرحوم مناصب قيادية مهمة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • مسؤول ثقافي، ثم مسؤول إعلامي، ثم عضو في اللجنة التنفيذية، ثم عضو في مجلس الشورى في “جماعة عباد الرحمان” بالسنغال
  • مترجم في سفارتي العراق ومصر بدكار في الفترة من 1982م إلى سنة 1985م
  • مسؤول إداري لدى الوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة – مكتب السنغال
  • مدير إقليمي لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية مكتب إفريقيا الغربية بالسنغال
  • مدير لهيئة التحرير في صحفية “الرسالة (Le Messager) ”
  • وزير للشؤون الدينية عام 2008م في عهد الرئيس السابق عبد الله واد، والمنسق العام لأكبر مؤتمر جمع علماء الأمة السلامية في دكار سنة 2011
  • مستشار للرئيس الحالي، مَاكِي صَالْ
  • عضو مهم في منظمة المؤتمر الإسلامي
  • وينضاف إلى هذه القائمة كونه كاتبا بارعا، لقد ألف الكتاب الشهير الذي يحمل عنوان “أضواء على السنغال” عام 1988م، وهو كتاب رغم صغر حجمه يُعد من أبرز المراجع إبان صدوره، لاسيما للباحثين والمهتمين بالثقافة الدينية في السنغال.
    الثالثة: لقد كان الأستاذ القدير محمد بمبا انجاي نموذجا فذا للمثقف الملتزم، في كل جبهة تُعني بالشأن الإسلامي أو بالمسلمين تراه جنديا منتصبا مناضلا. تكاد لا تجد طاولة مستديرة تُناقش فيها القضايا الإسلامية المهمة إلا وهو متربع يُدِرُّ بسخاءٍ نادرٍ مِنْ فيض ثقافته الواسعة. بحق، كانت ديناميته منفعِلة بكل مستجد يطرح على الساحة من قضايا تمس الدين الإسلامي. وما زال تحضرني تفاصيل النقاش الحاد الذي دار بيني وبينه وصديقنا المرحوم سيدي الأمين انياس مؤسس مجموعة “والفجر” حول “بكة ومكة” الذي تَوَلَّد من التصريح الذي أدلى به رئيس حزب « رِيوْمِي » السنغالي إدريسَ سِكْ. وما أريد أن أشير إليه هنا هو أن النقاش الذي دار بيننا كان سببا لتعارفنا وتقاربنا إخوة في الله لنصرة الإسلام والوطن، هذا على الرغم من كوني آنذاك أول من خرج عبر شبكات التواصل الاجتماعي معارضا ومحاولا تفنيد ما ذهبا إليه في هذه القضية. لا جرم في أنه موقف يدل على سعة أفق الرجل وسماحته، بل ذلك علامة جلية على تواضعه وبساطته. كأنه خاطبني يومئذ بلسان حاله بأن “الاختلاف في الرأي لا يفسد من الود قضية”. رحم الله فقيد الأمة وقدَّس ثراه.
    الرابعة: لا يختلف اثنان في أن السَّيد المرحوم أوَّلُ من شغل منصب “وزير الشؤون الدينية” في تاريخ السنغال الحديث، فبصفته مستعربا، يمكنني القول – دونما تعسف – إنَّه نجح بجدارة في خوضه تجربة عويصة لكونها كانت أولى من نوعها لم يخضها أحد قبله. وبناء عليه، أغتنم الفرصة للقول: إن المسلمين المستعربين تقاعسوا في المطالبة ببعض حقوقهم المهمة، إن بلدا مثل السنغال حيث يُقدر عدد المسلمين فيها بـ 97 بالمائة ليس لهم في حكومة وطنهم وزيرا – ولو واحدا – مكلفا بالشأن الديني، عجيب، وإن تعجب فعجب أمرهم، ولو بحثت ونقبّت قد تجد حقوقا أخرى مهدورة يندى لها الجبين. لقد آن لكل من في قلبه حبة خردل من غيرة على الإسلام أن يجأر قائلا: وا إسلاماه.
    وفي الختام، فإن هاجس الخاطر يحدثني أن المرحوم محمد بمبا انجاي قد بلغ الذروة في الخدمة والعطاء، من حيث أنه قدم أروع ما في جعبته، فلم يبق منها ولم يذر، كأنه قدَّم لنا أحسنَ نُسخةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْ بَيْنِ النُّسَخِ التي خُلِقَتْ لَهُ، فأضحى بذلك كالبدر في التمام، وكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين. غفر الله لفقيد الأمة وتغمده برحمته الواسعة وأبقى سعيه ونضاله في نصرة الإسلام والمسلمين والوطن نموذجا خالدا مخلدا يحتذى به.
    بقلم/ بروفيسور محمد غالاي انجاي بروكسل
    04 يوليو 2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock