السياسةالعمل والمستجدات

ترامب شخصية غريبة ، ولكن هل يمثل مسمارا قاتلا فى الجدار الحضاري لأمريكا ؟ عبد الرحمن بشير

ترامب شخصية غريبة ، ولكن هل يمثل مسمارا قاتلا فى الجدار الحضاري لأمريكا ؟ عبد الرحمن بشير
…………………………………………………. ………………………. ………………. ……………
يعيش العالم ومعهم الشعب الأمريكي فى دهشة ، لأن الرجل الأول فى الولايات المتحدة ( ترامب ) يستخدم ألفاظا غريبة فى الحس الديمقراطي لدى الأمريكان ، فهو يدّعى بأن تزويرا هائلا يجرى فى بعض الولايات ، كما يغرد بشكل مستمر : أوقفوا التزوير ، والغريب أن الرجل يعي ما يقول ، ويعرف جيدا ما يكتب ، ويدرى أيضا بأنه يقول ما يُؤْمِن به ، ومن هنا يكون السؤال مشروعا ، ماذا يريد الرجل ؟

لقد قال أكثر من مرة بأنه يريد بناء أمريكا ، وكأن أمريكا دولة فى العالم الثالث ، وهي بحاجة إلى البناء ، ولهذا ردّ عليه مرشح الديمقراطية ( بايدن ) بأن أمريكا تم بناؤها من قبل الآباء المؤسسين ، ولكنها بحاجة إلى الرعاية والمحافظة ، ومن هذا التناقض ما بين الخطابين نفهم أن ترامب لا يعتقد قوة المؤسسات ، بل يعتقد قوة الزعامة الشخصية ، والسبب هو أن الرجل جاء من خارج الدولة العميقة ، ومن خارج المؤسسات ، فلم يعمل فى المؤسسات سابقا ، بل كان الرجل شاطرا فى عالم المال بقدر ما هو ساذج فى عالم السياسة والحكم .

إن ترامب جاء من خارج المؤسسات ، ولهذا هو يحاول هدم المؤسسات ، فهو ضد المخابرات ، وضد البنتاغون ، وضد الإعلام ، ومن هنا وجد دعما بلا حدود من الغاضبين على المؤسسات ، وعلى رأسهم اليمين المتطرف ، والبيض الغاضبين ، ورجال المال الذين يَرَوْن بأن النظام يضبطهم أكثر ، ومن الذين لا يحملون شهادات عالية فى الدراسة ، والمسنين ، وغيرهم من الذين يحلمون بناء دولة خالصة من الأجانب ، وكأن أمريكا قامت على المواطنين الأصليين ، ولكن هناك من يُؤْمِن بأن الولايات المتحدة قامت على أكتاف البيض فقط ، ويجب أن تبقى كذلك .

يعتقدترامب بأنه إنسان مخلّص ، ولديه قوة روحية ، والعالم بحاجة إليه ، ولهذا يجب أن يبقى فى الحكم فى مدد طويلة ، وليس من شأنه أن يترك الحكم ، لأن العالم ما زال بحاجة إليه ، والرجل أيضا يفكر وهو يحكم بعقلية رجال الأعمال ، ولديه مصطلحات غير سياسية فى التعامل مع الملفات الساخنة ( صفقة القرن ) نموذجا ، ويستخدم ضغوط رجال الأعمال فى التعامل مع الدول ( السودان ) نموذجا ، ولديه استخدامات رجال الأعمال مع الدول ( السعودية ) نموذجا ، ويجب بلا حدود رجال السلطة الذين يوصفون بالمستبدين ( السيسي ) نموذجا حيث وصف الأخير بأنه الدكتاتور المفضل لديه ، وتعامل بشكل يبدو منه العجب مع مستبد كوريا الشمالية ، فالرجل ليس حاكما ديمقراطيا ، ولكنه يعيش فى وسط ديمقراطي لا يقبل منه الإستبداد ، ولهذا فهو يريد هدم الولايات المتحدة من الداخل .

يُؤْمِن الرجل بأن السماء معه لأجل إسرائيل ، ولهذا قال السفير الأمريكي فى فلسطين المحتلة ( إسرائيل ) بأنه لم تم اختيار ترامب مرة ثانية ستتغير منطقة الشرق الأوسط فى مائة عام القادمة ، ولأجل تحقيق شئ ما لإسرائيل عمل ما يمكن عمله لصناعة طوابير تطبيعية لدول الهامش فى العالم العربي ، ورأينا مسرحيات التطبيع مع إسرائيل من قبل الإمارات ( العظمى ) ومن قبل البحرين ، الدولة التى خاضت مع إسرائيل حروبا ، فهذا النوع من العبث فى عالم السياسة تحول إلى عبث إقتصادي وعسكري وأمني ، ورأينا تنافسا لا معنى له من قبل شركات الطيران فى صناعة جسور ما بين الكيان وتلك الدول المطبعة ، والغريب أن تلك الدول لم تعد إلى قواعدها ، ولا إلى مجالسها الشكلية ، ومن هنا نفهم بأن الرجل ، ومعه فريق سياسي مكون من العائلة الحاكمة ، والبعيدة عن العمل المؤسساتي يقوم بعمل جبار لأجل إسرائيل .

إن ترامب ليس رجل دولة ، بل هو رجل مال ، ومن هنا نجده مراهقا فى عالم السياسة ، وجعل الولايات المتحدة ، الدولة الأولى فى العالم ، مسرحا سياسيا لأفكاره المراهقة ، وحكم الدولة من خلال النت ( التويتر ) ، وخرج من كل الإتفاقيات ذات الشأن الدولي ، كالإتفاقية التى جرت بين الدول الكبيرة وإيران ، والإتفاقية الدولية للمناخ ، ولكنه يصنع ذلك لأجل تحقيق ربح شخصي ، ومن هنا نجد بأنه جعل الولايات المتحدة ، الدولة الأقوى فى العالم دولة هشة سياسيا ، بل ونجح فى إضعاف أمريكا عالميا ، ولهذا يمكن أن يكون ترامب مسمارا قويا فى الجدار الحضاري لهذه الدولة التى ادعت قرونا بأنها دولة مؤسساتية ، وليست دولة يحكمها زعيم برغباته وأهواءه كما هو الشأن فى الدول ذات الأهواء .

إن الدول حسب ابن خلدون تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، دول لديها أحكام العقل ، وهي التى تتحاكم إلى المؤسسات كما هو الغرب ، ودول شرعية ، وهي التى تتحاكم إلى المؤسسات ذات المرجعية الشرعية ، وهي التى تتحاكم إلى الشريعة ، ودول تتحاكم إلى الطبيعة والأهواء ، وهي التى يحكمها زعيم بهواه ، وهي غالب الدول العربية والإسلامية والأفريقية ، وكأن ترامب يعجبه هذا النوع من النظام ، ومن هنا نرى بأن أمريكا اليوم ، ومن خلال حكم ترامب خطت خطوات نحو دولة الأهواء ، وابتعدت قليلا عن دولة العقل والمؤسسات .

ليست أمريكا دولة ضعيفة ، لديها مؤسسات قوية ، ولديها وعي جيد ، ولكن المسمار الذى استخدمه ترامب لم يكن سهلا ، ومن هنا فلا بد من فهم هذه الحقيقة ، وأن البعض من المسلمين يَرَوْن بأن أمريكا يجب أن تسقط ، ولكن السؤال ، ما البديل ؟
إن أوربا ليست بديلا للقيادة ، لأنها شاخت ، وخرجت من التاريخ ، ولأن الصين كدولة وحضارة ليست بديلا جيدة ، بل هي الأسوأ ، لأنها ليست دولة تتحاكم إلى العقل ، بل هي تتحاكم إلى أهواء الحزب الحاكم ، ولديها دكتاتورية الحزب الحاكم ، ومن هنا فلا بديل حقيقي عن أمريكا ، والعالم العربي يعيش فى مرحلة متخلفة سياسيا ، ولديه مشاكل لا تجعله بديلا ، كما أن العالم الإسلامي غير العربي ( تركيا ) نموذجا فى طور التشكيل ، ولَم تصبح بعد نموذجا عالميا ، ومن هنا فإن العالم يسقط فى فراغ سياسي دولي إذا ما سقطت أمريكا ، ولهذا لا نحبذ هذا السقوط ، وأمريكا قد تدخل فى مرحلة الحروب الأهلية ، ولكنها ليست دولة عادية ، بدهي دولة نووية ، ويمكن أن تتفكك كدولة ، وكل ذلك يمكن ، وهناك دراسات تؤكد ذلك ، ولكن هذا الزمن ليس أوانه ، فما زالت المؤسسات قوية ، وما زال الوعي السياسي قويا ، وما زال الشعب يريد أن يكون واحدا ، وما زالت الدولة العميقة تعمل أن تكون الأقوى فى العالم .

إن مشكلة ترامب ليس فقط ، لأنه جاء من خارج الحكم ، ولكنه جاء متميزا عن غيره ، فهو يحمل خطابا شعبويا ، وعاطفيا ، وسطحيا ، وغير مركب ، ولهذ فهو ينجح فى مخاطبة العوام ، ويقنعهم بأنه جاء مخلّصا للشعب الأمريكي من غطرسة الحكام ، ولديه أفكار أصولية ودينية ، وعنده عقدة النقص من قبل السياسيين الناجحين قبله ، وبعده ، ولهذا طرد كثيرا من رجال الأمن والسياسيين ، ويبدو من أعماله بأن يشكو من مرض اسمه ( الحسد ) ، فهو دائما يتحدث عن أوباما الفاشل ، والعالم يعرف أن أوباما لم يكن فاشلا ، ولكنه لم يعمل العمل اللازم ، ومع هذا فهو من القلائل الذين دخلوا تاريخ الحكم فى أمريكا .

لن يقبل ترامب الهزيمة ، ولكنه سيترك الحكم ، لأنه لا يحكم دولة فى العالم الثالث ، ولن يقبل ترامب الخروج من البيت الأبيض ، ولكنه سيغادر منه ، لأن البيت الأبيض ليس قصر للحكام فى العالم الثالث ، ولن يقبل ترامب الخروج من الحكم ، ولكنه سيخرج منه أرغمت ومضطرا ، لأنه فى دولة لا تقبل الحاكم المستبد ، ومع هذا فهو دخل التاريخ من باب ( الغربة السياسية ) ، فهو غريب فى كلامه ، وغريب فى توقيعه الذى يبدو من تداخلاته التعقيد السياسي ، وغريب فى تعامله مع الناس حيث يُؤْمِن بالإستعلاء الفكري ، وغريب من فى مصافحته ، لأنه يحسب بأنه أقوى من الآخرين ، وغريب فى محادثاته مع الساسة ، لأنه ينطلق من عقلية رجال( البسنس ) فى عالم السياسة ، فهو يحكم دولة ولدت فى خارج التاريخ ،ولكنها تريد أن تقود العالم من خلال ذلك ، وهو كذلك جاء من خارج عالم المؤسسات ، وصار مسمارا فى الجدار الحضاري .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock