السياسةالعمل والمستجدات

مقال اليوم : أحلام في ذاكرة البحر…

 

في عالم رهيب وكوكب ضيق، في قارة صغيرة، داخل بلد ما حزيين، بين مجتمع ظالم، حيث تسلب الحكومة أموال الفقراء، حيث لا صوت للفرد الضعيف الذي أخذوا منه قوته، أخذوا منه حقه، سرقوا منه حياته، نهبوا منه خيراته .. بين هذا المجتمع المرعب، تحت هذه السماء الحالكة ، على هذه الأرض المخيفة، ينبثق نفر من الشبان رجالا ونساء، منهم الطالب، ومنهم العامل، ومنهم دون ذالك، يستيقظون معا والواجبات تطرق أبوابهم وتدكها دكا، فالأم في جانب والأب في جانب آخر، وما بين أم وأب أمنيات شخصية تتطلبها الحياة..
شبان فقدوا الأمل في أوطانهم، بحثوا عن العمل ولم يجدوا غير السراب، شبان ضاعت أوطانهم بين القارات الثلاث، شبان كانت مهنهم الصيد فباعت الحكومة ورجالها بحارهم ولم يعدو يجدو حيتانا في لججها، شبان أنهكتهم مشاكل الحياة، فظلوا تائهين حائرين في مسافات الزمان والمكان، شبان ولدوا في بيوت خالية من الأثاث، في بيوت لا توقد فيها قدر ولا تتأجج فيها دخان الطعام، شبان يستيقظون، وخلفهم، وأمامهم رؤوس تتكأ على أكتافهم معتمدين عليهم، ينتظرون منهم قوت يوم، شبان عافتهم مجتمعاتهم، وتآمرت ضدهم رجال الدين والساسة، فسرقوا لهم مستقبلهم، بعد أن امتصوا دماءهم، واستعبدواهم وقيدوا أعناقهم بسلاسل الذل والهوان، ثم أذاقوهم كل أنواع العذاب ..

بين هذه الدوافع المتنوعة والمؤامرات الخبيثة من رجال الدين والساسة، ظهروا فجوا ومعهم حلم مشترك هو رحلة إلى المجهول ، أو مغامرة إلى ما وراء البحار، حيث يشعرون بالأمن والسلام، حيث يجدون ما يسدون به جوعهم، حيث يعملون ويدرسون ولا تطاردهم ذءاب الحكومة ولا ثعابين الجبال المزعومين أنهم رجال دين ..
في الساعة الخامسة مساء حول ضفة بحر ” غانجول” والشمس تميل للأفول، وأشعاتها تنسحب من جدران الكون لتتهيأ النجوم وتحتل مكانها على السماء وليبدأ موسم الليل المنتظر لتنطلق الرحلة … ولكن أي رحلة ياترى ؟
هنا، في هذا المكان الذي يعج بالسكينة والهدوء، اجتمع نفر من الشبان ومعهم سفينة بسيطة ليست بالصغيرة جدا ولكنها لم تبلغ الكمال، ومعهم قائد السفينة، في داخلها شيء من الطعام، أخباز جافة، كوسكوس يابس كالحصباء، شيء من الماء ، قليل من الأقمشة، ليترات من البنزين، ينتظرون من يكمل عددهم للانطلاق …

تم العدد المطلوب، مع ارتداء الليل برد الظلام، في الوقت الذي توارت جميع نجوم السماء خلف الضباب، والناس حول منطقة “غانجول “في نوم عميق لم يشعرو ما يحدث على ضفافهم..
انتطلقت السفينة راسية خطوها نحو أروبا المحلومة وفي بطنها عدد كبير من الأبرياء، والمساكين والضعفاء الذين ملئت رؤوسهم أحلاما، تمضي السفينة خطوة تلو الأخرى وغضب الأمواج تلطمهم، والعواصف تهب في كل مكان، وتلوثات البيئة تزعجهم، ولكن، رغم كل هذا العذاب، هم على متن السفينة يمضغون الصمت بكل صبر وعزم، هدفهم الواحد هو الوصول إلى شاطىء بارشلون المقصودة، وفي عقل كل منهم تتطاير أشباح مختلفة ؛ ضفاضف ريال مادريد وشواريع باريس ، ساحات أثيناء وكنائس لندن، أزقات روما وحوانيت نيويور، كل هذه الصور تدور في رؤوسهم..
ولكن السفينة لم تزل تطفو على سطح المياه، ولم تزل تتمايل يمينا وشمالا وكأنها ضاعت بين الجهات الأربع، فتارة تتجه نحو اسبانيا، وتارة أخرى تضيع متجهة نحو المحيط الأطلسي، وما هي إلا يوم وليلة يتسرب فقدان الأمل في أعماق من في متن السفينة، بدأ الخوف يحاصرهم والموت تطاردهم من كل مكان، تضربهم الأمواج فترتفع السفينة نحو السماء، ثم تهب رياح الشمال الحارة فتعود السفينة إلى طبيعتها مهتزة اهتزاز الزلازل، تتعالت أصواتهم صراخا ولا تسمع عويلهم غير الحيتان الجائعة في عمق البحر، يمدون آياديهم لبعضهم البعض، ولكن بلا جدوى، فكلما اعتمدوا على سند أغرقته الأمواج الغاضبة والعواصف الشديدة، انتهت مياههم القليلة فظلوا متعبين منكوبين يحرقهم الظمأ ، كما انتهى كل ما كان لهم من طعام ولباس..
وهكذا غرقوا جميعا فرادا، وهم حاملين حقائبهم المليئة بالأحلام التي لم تتحق ولكنها بثت وطويت ” تحت ذاكرة البحر ” أما جثثهم، فقد عافتها المياه ورمتها إلى شواطئ متفرقة لا تمييز بينها ..

هكذا رحل الشبان وماتوا كلهم، تاركين وراءهم الأمهات ، والآباء والإخوة والأهالي والأصدقاء، وكلما في الحياة..
أيتها الحكومة الجائرة، ورجال الدين المؤامرين ، أيها المجتمع الفاسد، أيتها الأسر التي ضغطت على أبناءهم وحولتهم ضحاي البحر، انظروا كيف ظلمتم أبناءكم، كيف قتلتم أحلام رجال كانوا أملا لأوطانهم، انظروا كيف جعلتم أبناءهم أيتاما يبكون ليل نهارا، بينما كل من بينكم الآن متمتع بزينة الحياة، وخلفوا آلاف أسئلة على طاولة الحياة، أهمها :مالحل لمشكلة الهجرة الغير الشرعية ؟
من هنا، سأترك صفحة هذا السؤال المفتوح فارغة يملئها عزيزي أو عزيزية القارئة، بعدما أبدي فيه رأييي المتواضع منطلقا :
قد يحاول الكثير منا معالجة المشكلة متجهين نحو هؤلاء الشبان قائلين لهم امكثوا في بلادكم، تعملون فيه، أو لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ..كل ذالك منتظر من المجتمع، إلا أنني لا أوافق المجتمع، ولا أقول شيئا للشاب الذي يستعد ركوب السفينة نحو أوروبا، لا أعاتبه، بل سأ ذهب بعيدا إلى ذالك.. سأبحث عن الدوافع والأسباب، أي، عن الماورائيات التي تدفع الشبان إلى المغامرة، لأن رأيي يخالف آراء الكثير حول هذا الموضوع الحساس، -وما أكثر مخالفتي مع المجتمع -ولكني أخاطب بكل صراحة هذه الحكومة الجائرة التي وعدت أبناءها بالأعمال ولم تف بعهودها، أخطابها هي التي باعت البحر للأجانب حتى اضر الصيادون إلى اقتحام الحدود إلى أوروبا، أخاطب رجال الدين المؤامرين الذين لهم صدى مسموعة في البلد ولن ينطقوا حرفا خوفا من الحكومة وضياع منافعهم الشخصية وفراغ جيوبهم، أخاطب أمنا المعكوفة في الكوخ ترسل وتدفع ابنها إلى الرحلة، أخاطب الأسرة التي يملك بعض أفرادها ما يستطيعون مساعدة الشباب ولم يفعلوا، أخاطب المجتمع المنافق الذي يطرد ويعاف أبناءه إذا لم يجدو عملا مناسبا، لهؤلاء جميعا أقول : لكم المسؤولية في هلاك أبناءكم وضياعهم في غياهب الحياة.

سيد أحمد غسما

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock