
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق . بقلم الأستاذ عبد الرحمن بشير
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق . بقلم الأستاذ عبد الرحمن بشير
…………………………………………. ………………………………………
تمر منطقتنا لحظة غير عادية ، لا توجد ثقة حقيقية بين الأطراف الفاعلة ، والسبب هو أن الشك حلّ محل الثقة ، وكل واحد يخاف من الأخر ، فالجميع فى ورطة ، ويزداد الناس خوفا من المستقبل ، ذلك لأن الديون تأخذ مداها ، والفقر يزداد قوة ، فتزداد الفجوة بين الطبقة المترفة ، الأقلية التى تملك المال والحكم ، والأكثرية المسحوقة التى تئنّ تحت الفقر المدقع ، واختفت الطبقة المتوسطة من الساحة .
للأزمة فى منطقتنا تجليات ثلاثة ، التطرّف الديني المتمثل بالفكر المنغلق ، وهو نوعان ، الفكر العنيف الذى تحمله جماعات العنف الديني كالشباب وأخواتها ، والفكر الجامي الذى يحاول تغييب دور الشعوب ، وتضخيم دور الحاكم ، والثانية تكمن فى الإستبداد السياسي ، والذى يعمل فى الإستمرار الدائم على الكرسي بدون شرعية مكتسبة من الشارع ، أما الثالثة فهي تكمن كذلك فى الفراغ السياسي ، والذهاب إلى مربع الحروب الأهلية ، فهذه التجليات الثلاثة لها أسباب ثلاثة :
أولا : الجهل بنوعيه ، البسيط ، والمركب ، هناك تجهيل متعمد للشعوب من قبل الأنظمة الحاكمة حتى تبقى مفعولة بها ، ولا تعي ما الذى يجرى فى الساحة من حراك ثقافي وسياسي ، ومن هنا فالتطرف والإستبداد والإستخراب يستغلون الفراغ الفكري المتمثل فى الجهل عن الحياة .
ثانيا : يرى الشيخ محمد الغزالي أن الإستعمار يمتد فى الفراغ ، فلا مشكلة خارجية بدون قابلية حقيقية لها من الداخل ، لدى الأمة رخوة ثقافية ، وتخلف فكري عميق حول الصراع الحقيقي ، ويؤكد بعض فقهاء السياسة بأن لُب المشكلة فى بقاء الأمة فى هامش الحياة طويلا ، والعيش تحت فقه الضرورة السياسية فى أكثر من عشرة قرون .
ثالثا : وجود مصالحة ما بين رجال الدين ، ورجال الحكم ، هناك رجال دين لا همّ لهم سوى القبض من بعض الأموال من الخارج ليكونوا جزءا من صفقة القرن ، وهم جاهلون ، بل وهناك من رجال الدين من هو مستعد للعمل مجانا مع رجال الحكم ، فهذه المصالحة تصنع عالما خاليا من المقاومة .
إن الأزمة الفكرية والسياسية عميقة جدا فى المنطقة ، وهي من الأسباب الرئيسيّة لكل أزمة تالية فى المنطقة ، فلا حل حقيقي لمشكلات أمتنا ما لم نجد حلا للأزمة الفكرية ، والتى تتمثل فى التأويل الديني ، والذى يجعل التاريخ هو الفيصل ، والتشريع مسألة تاريخية توقفت فى الأزمنة الماضية ، وينازع هذه المدرسة تيارا آخر يدعو الناس إلى تجاوز الدين ، وصناعة ساحة بلا مرجعية دينية ، ومن هنا نجد أن المستقبل القريب سوف يحمل للمنطقة مفاجآت من نوع جديدة ، ذلك لأننى وجدت بين الشباب تيارا جديدا يعتقد بأن السنة النبوية صناعة أموية ، وأنه يمكن تجاوز التراث ، كما يمكن لنا تفسير الكتاب العزيز بعيدا عن مناهج المفسرين .
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق ، هناك تطرف لاديني فى الساحة ، ولكنه مكبوت سياسيا ، وينتظر لحظة الإنفجار ، فهو لا يقل خطورة عن التطرّف الديني ، وموجود بشكل جيد بين الشباب المتعلم ، والهارب من تسلط رجال الدين فى الساحة ، ولديهم منابرهم ، واتصالاتهم ، ووجدت كذلك أن قراءتهم للفكر الإسلامي الحديث ، والقديم ضئيلة ، ومن هنا فهم ضحايا الجهل من جانب ، والخوف من تسلط رجال الدين على عقولهم من جانب آخر .
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق ، تشكو الحالة الدعوية فى منطقتنا حالة غير سوية ، هناك تدين أنثوي ، وغياب ذكوري ، فالنساء يمثلن العنصر الأساس للدعوة ، ويبتعد الرجال عن ساحات الدعوة مما أوجد فى الساحة الدعوية تضخما أنثويا ، وتصاؤلا ذكوريا ، ولكن ما زال الخطاب ذكوريا ، ولكن التفاعل الدعوي أصبح أنثويا ، وهذه مفارقة غريبة ، كما أن الساحة الدعوية تعجّ بالعامة ، وينفر من الخطاب الدعوي الكادر المتعلم ، وخاصة فى الأجيال الجديدة ، ويعود السبب فى نوعية الخطاب ، وفى نوعية رجال الخطاب ، ومن هنا نجد أن الساحة الدعوية تمرّ أزمة وجودية .
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق ، تشكو الساحة الفكرية صراعا عدميا بين النخب ، فلا حوار حقيقي بين حملة الخطاب الدعوي ، بل الشك هو الواقع بين حملة الخطاب الفكري ، وهذه تمثل فى العمق أزمة ، ولكنها ليست موجودة فى قشرة المجتمع ، لها وجود فى العمق ، ولأجل هذا فلا يرى المتابع خطورتها الآن ، بل ستكون كارثة فكرية فى المستقبل ، ويحاول كل تيار بناء السدود الفكري ، والفقهي ، ويتم هدم الجسور ، والتى من شأنها صناعة المجتمع المتفاهم ، ولو كانوا من مدارس مختلفة .
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق ، توجد فى المنطقة حرب شعواء على اللغة العربية باعتباره لغة الحضارة الإسلامية الأولى ، فهي لغة الوحي ، ولغة العلوم الإسلامية ، ولا تنافسها فى هذا المجال لغة أخرى ، ولكن هناك اللغة الفارسية ، وكذلك اللغة الأوردية ، واللتان تعتبران من لغات العلوم الإسلامية فى العالم الإسلامي ، ومع هذا فلا مجال لفهم الدين بدون اللغة العربية فهما جيدا ، وصحيحا ، ومن هنا وجدنا الذين لا يتقنون التكلم باللغة العربية من العلماء والمفكرين يدرسون اللغة العربية ، ويفهمون أساليبها جيدا ، ولهذا نجد كبار الشخصيات الذين يدخلون دين الله ، يبدؤون الطريق من إتقان اللغة العربية .
إن الحرب الشعواء على اللغة فى المنطقة حربٌ على الهوية الحضارية ، وليس غير ذلك ، فاللغة العربية ليست للعرب ، بل هي لغة عالمية تحمل فى طياتها المشروع التحرري الإسلامي ، ويجب على المهتمين بالدِّين وقضيته أن يهتموا باللغة العربية ، فهي الوعاء الحقيقي للدين ورسالته ، فلا فهم للدين بغياب اللغة العربية فى المنطقة .
فى العمق أزمة ، وفى الأزمة عمق ، ولكن لا بد من صناعة المفكر العميق ، والفقيه العميق ، والفيلسوف العميق ، لا يغوص فى العمق إلا من تحصّل حسّا عميقا ، وفهما عميقا ، وفكرا موسوعيا .
يجب أن نطرح مشكلاتنا بعمق ، وبدون خوف ، فلا بد من مواجهة حقيقية للذات ، ويومها نبدأ أن نفهم من نحن ؟ وماذا نريد ؟ وإلى أين المصير ؟