السياسةالعمل والمستجدات

صناعة العقل ليست مسألة أكاديمية . عبد الرحمن بشير

صناعة العقل ليست مسألة أكاديمية . عبد الرحمن بشير
………………………………………………………………………
منذ زمن بعيد تمردت على الدراسة التقليدية ، ورفضت النظام التعليمي المتّبع ، لأن النظام سواء أكان التقليدي التدريس فى المساجد ، أو التقليدي فى المعاهد والجامعات ، والكل يحاولون أن يملؤوا عقولنا بالمعرفة دون أن نبحث عن حقيقة المعرفة ، ودون أن نقوم بنقد المعلومات التى تشحن فى عقولنا من قبل الكتب والمناهج ، ونصبح نسخا معرفية ، أو كائنات جديدة تجمع بين النطق كبشر ، ونسخا جديدة كمكتبات إضافية ، والسبب هو أن الجميع يحاول أن يكون صاحب معرفة ، وليس صاحب عقل ، أو صاحب شهادة ، وليس صاحب حكمة ، أو صاحب معلومات أكثر ، وأوفر ، ولكن لا يحاول أحدنا أن يجد للمعلومة حقيقة ، ومن هنا قلّ المفكرون ، وكثر المثقفون ، واختفى عن الساحة العلماء ، وظهر فى الساحة الوعاظ ، وانسحب العقلاء ، وكثر المعمّمون ، واستحوذ السوق الخطباء ، وانزوى عن الساحة الخبراء ، وتنافس فى الشارع من يملك الثروة فقط كذئب خطير كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله ، بل ورأينا من يجمع بلا حياء الثروة مع الشهرة ، ولكن بلا حكمة وعلم ، ومن أراد أن يكون ذَا بال فى العالم اليوم فليذهب إلى جامعة متخصصة فى منح الشهادات الجامعية ، وما فوق الجامعة ، ولكن بدون أدنى أخلاقيات المعرفة ، فالشهرة أيضا ذئب قاتل ، ولكن من الممكن أن تكون إنسانا فى الجسم والشكل ، ولكن من الداخل يمكن ، بل هذا هو المصير تصبح حيوانًا شرس وقاتلا ، ولأجل هذا كنت ، وما زلت متمردا على الأنساق المعرفية فى بلادنا ، وعلى النظام التدريسي القائم على تحشيد المعارف فى العقول ، وكأن العقل خلق ليكون مخزنا للمعلومات فقط ، ولكن دور العقل الحقيقي ليس لهذا فقط ، بل له دور الخيارات ، والنقد ، والبحث ، والتمرد ، ومن هنا نجح العقل فى بلاد الغرب فى صناعة البدائل ، بينما نحن نجحنا فى استيراد المعلومات من التاريخ ، أو من وراء الحدود .

رجال من كوكب آخر فى التفكير ، أضافوا إلى عقلى منهجية التجاوز .
……………………………………………………………………………………
قبل عقود ثلاثة كنت أعيش فى أزمة فكرية ، وكنت أبحث عن قضايا مصيرية ، فالقضية الأولى كانت تكمن حول الهوية ، من أنا ؟ ولماذا أنا هنا ؟ ومن وراء عملية وجودى هنا ؟ ولماذا لا أكون فى مكان آخر ؟ وهل هذه المسألة لها وجه مخفي ، وآخر ظاهر ؟ هذه الأسئلة العميقة والمركبة عاشت معي ، ووحدى ، ولكنها كانت مستفزة ، وقلقة ، ثم جاءت قضية أخرى ، وهي قضية المنهج ، هل العقل هو المصدر للمعرفة ؟ أم النقل والوحي ؟ ولماذا الغرب متقدم بدون وحي ؟ ولماذا الشرق متخلق مع وجود دين ؟ أين تكمن المشكلة ؟ وبعد ذلك جاءت القضية الثالثة ، هل يمكن للأمة أن تعود إلى التاريخ مرة أخرى ، ولكن كيف ؟ ومتى ؟ وماذا تفعل مع وجود مخاطر غير عادية ، ومهددات غير مسبوقة ؟

لقد عاشت هذه القضايا فى عقلى ، وبحثت لها حلولا ، وقرأت مشكلات الشعوب والأمم ، وكيف نجح الألمان الهروج من ورطة الحروب ؟ وكيف صنع اليهود دولتهم من العدم ، وجعلوها حقيقة سياسية ؟ وما السر فى نهضة سنغافورة ؟ وهل هناك ثمة نهضة ؟ أم المسألة صناعة خرافية لإلهاء الشعوب عن النهضة الحقيقية ؟
بحثت المشكلات ، وقرأت مئات الكتب ، واشتريت العشرات ،بل المئات من الكتب لأج معرفة السر ، ولكن أنّى لي أن أعرف ، والجميع يبحث عن المعلوم ، فلا أحد يبحث عن السر ، ولا أحد يطرح عن القضية بعمق ، فالحنين يتحدث بسهولة وبساطة عن سبب التخلف ، هو تركنا للدين ، وسبب الخروج من التخلف هو العودة إلى الدين ، ولدينا نصوص كثيرة يمكن للإستدلال بهذا ، ولكن المشكلة ليست فى هذا ، بل المشكلة أعمق من ذلك ، فنحن نزداد تخلفا ، والآخرون يزدادون تقدما ، أين المشكلة ؟

لقد منحنى القدر كتب مالك بن نبي رحمه الله ، وقرأت ، ولكن هذه المرة ، ليس بعقل المتلقى ، بل بعقل النقد والبحث ، وطرحت على الكتب أسئلة الجيل المخضرم ، والعجيب أننى وجدت شيئا من ضآلتى الفكرية ، فالرجل يبحث عن مشكلة الحضارة ، وليس عن التدين فقط ، ويبحث عن الخروج الممنهج عن التاريخ، كما يبحث عن إمكانية العودة ، وليس عن حتمية العودة ، فيبحث عن الشروط الموضوعية ، وليس عن الشروط القدرية ، فوجدت أن الرجل ليس فى أبحاثه العلمية أيديولوجيا، بل هو موضوعي إلى حد بعيد، هنا تجاوزت مرحلة التلقى الأيديولوجي إلى مرحلة المعرفة الموضوعية ، فاستراح قلبى نوعا ما ، ولكن بدأ عقلى مرحلة جديدة فى اقتحام الميادين العقلية ، فقرأت بعقل جديد لابن تيمية ( السلفي المظلوم ) ، والغزالي ( الصوفي الفيلسوف المدان ) ، بل وقرأت لسيد قطب ( الحركي الشهيد ) ، ولعلى شريعتى ( الفيلسوف الشيعي بنكهة سنية ) ، ولكن بسبب قراءتى لمالك بن نبي نجحت فى تجاوز مشكلة الوقوع فى القولبة ، والنماذج الفكرية غير المركبة ، والحلول البسيطة .

بعد زمن غير طويل ، وكنت فى فرنسا فى زيارة لأحد زملائي الفكريين القدامى ، وهو الآن سفير فى دولة عربية مركزية ، وجدت عنده مجلة علمية كانت تصدر حينها فى الغرب ، وكانت تسم ( الإنسان ) ، فقرأت مقالا فكريا عميقا للمفكر المصري الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله ، وتحدث الرجل بعمق كيف يمكن لنا أن نفهم الغرب الفكري ؟ هنا أحسست وبعمق أننى وجدت ضالتى مرة أخرى ، وتساءلت من يكون هذا الرجل ؟ فقد منحنى القدر مفتاحا آخر لفهم الخريطة الفكرية للإنسان الغربي ، وهذا الإنسان يمثل بنسبة لنا جزء أساسيًا من مشكلاتنا ، وبعد هذا اليوم جلست أدرس وبنهم كتب المفكر الفيلسوف النصري عبد الوهاب المسيري رحمه الله ، وقد نجحت فى قراءة جميع كتبه ، وبسبب هذه القراءة تجاوزت مشكلة أساسية تكمن فى العقل المسلم ، وهي مشكلة التبسيط المخل ، واستفدت من هذا الكاتب أفكارًا مركزية وأساسية ، ومن أهم كتبه التى قرأتها ، وما زلت كتابه المعون ( رحلتى الفكرية – فى البذور والجذور والثمر – سيرة غير ذاتية غير موضوعية ) ، والكتاب حديث عن السيرة الذاتية للمفكر ، ولكن يت بأسلوب جديد ، وطرح علمي مركز ، وعبر دراسة علمية غير مسبوقة ، فالرجل تحدث عن رحلته العميقة ذاتيا ، والبعيدة موضوعا ، ولكنها حين اندمجت الرحلتان ، تحولتا إلى سيرة غير ذاتية ، وتاريخ غير موضوعي ، فالرجل ناجح فى صناعة العقل العلمي ، كما نجح فى تجاوز العقل الغربي بفهم ، وليس بشعارات فقط ، ومن خلال قراءتى لأفكاره عرفت قيمة العقل العلمي المتحرر من العقلية البسيطة ، والمنحازة إلى العقول المركبة .

فى الوقت ذاته ، قرأت للأستاذ على عزت بيچوفيتش رحمه الله كتابين خطيرين ، أحدهما تحدث عن تجربته كمسلم ، ومفكر مناضل فى تجربته فى السجن فى زمن الشيوعية ( هروبى إلى الحرية )، لأنه وجد ذاته فى مشكلة خطيرة يشعر بها السجين الوفرة فى الزمان ، والندرة فى المكان ، فهرب من هذا الواقع الأليم إلى واقع يشعر به من الداخل ، فأنتج كتابا قرأته أكثر من مرة ، وكلما أجدّد فيه القراءة أشعر بأننى أولد من جديد ، ولكن الكتاب الذى حوّل وجهته الفكرية من العمق هو كتابه المعنون ( الإسلام بين الشرق والغرب ) ، فهذا الكتاب يعتبر من أروع ما كتب ، ومن أجود ما سطر ، ومن أفضل من أنتجه عقل معاصر عن الإسلام كدين ومنهج حياة ، وحينها ، بل حين أعاود النظر فى هذا الكتاب يزداد إيمانى بعظمة العقل المسلم حين يزاوج بين العقل العملي والنقل الصحيح بشكل منهجي وموضوعي ، وتعلمت من الكتاب حكمة جليلة ( أن تكون مسلما تعنى أن تكون إنسانا ً ) ، وأن تكون إنسانا بالمعنى الصحيح تساوى أن تكون مسلما ، فهكذا انتهت قصة على بيجوفيتش الفيلسوف والمفكر والسياسي .

قبل عقد من الآن ، استمعت إلى قصيدة فلسفية للمفكر الفيلسوف ( هدرا ي ) فعرفت حينئد أن ليس شاعرا فحسب بل هو عندى راهب فكر فى لباس الشعر ، وفيلسوف يبحث عن الحكمة من خلال الكلمة الموزونة، ومن خلال الشعر يبحث عن مشكلات شعوبنا ، فهو بالنسبة لنا مالك بن نبي ، ولكنه يعيش فى اليتم الفكري ، لأنه يعيش بين ذئاب يبحثون عن الثروة ، وليس عن الحكمة ، وكما مات مالك بن نبي مديونا وفقيرا وهو من هو فى عالمه الفكري ، سيواجه هدراوي ومن على شاكلته المصير ذاته ، ولكن فى رقعة جغرافية أخرى من العالم الإسلامي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock