السياسةالعمل والمستجدات

الأستاذ الأصوليّ قطب مصطفى سانو والوجه النّحويّ المغمور – كلمة بمناسبة اليوم العالميّ للّغة العربيّة

الأستاذ الأصوليّ قطب مصطفى سانو والوجه النّحويّ المغمور – كلمة بمناسبة اليوم العالميّ للّغة العربيّة

كان الأستاذ قطب، وهو في طراءة الصّبا، بهجةً للسّمع والبصر معًا، ومتعةً للقلب والرّوح جميعًا، في تلك الأيّام الخوالي في مدينة كانكان بدولة غينيا؛ وهو يطلبُ العلم على الرُّكَب في المجالس، فمضت السّنون كاشفةً عن عجائب ذكائه، وغرائب تفرُّده، حتّى اقتضت طبائع الزّمان والمكان أن يلقي عصا التّسيار بالمسجد الحرام في مكّة المكرّمة في أوائل الثمانينيّات – زادها الله تكريمًا وجلالًا ومهابةً؛ ليعبَّ من معين العلوم، ويجدَّ في تحصيل الفنون، فمكث بها حينًا من الدّهر، حافظًا ودارسًا على أيدي جلّةٍ من أساطين اللّغة وفطاحلها، وفحول الشّريعة ورجالها، ثمّ رحل – بنفسٍ مشوّقةٍ وقلبٍ لهيفٍ – إلى جامعة الملك سعود بالرّياض، رحلةً انتهت به إلى شرق آسيا في ماليزيا، التي حصل في إحدى جامعاتها على درجة “الأستاذيّة”، بجدارةٍ باديةٍ لا يماري فيها أحدٌ.
وقد ذهب النّاس في تتبُّع معالم نبوغه مذاهبَ شتَّى، وحريٌّ بهم أن يذهبُوا تلك المذاهب؛ فهو الألمعيُّ الذي يثبتُ النّصوص ويحرّرها، ويستقرئ المسائل ويقرّرها، وقد وافى جامعة الملك سعود وهو في صدر الشّباب، وكان لسانُه رطبًا بالمتون العلميّة قريبها وبعيدها، وكان لا يخرج من المسابقات العلميّة إلّا متفوّقًا في الصّدارة.
استولى هذا الرّجل من علم الأصول على الأمد، ودرى من علم الاقتصاد ما درى، وله فوق كلّ ذلك جولةٌ غريبةٌ في ميدان علوم العربيّة على اختلافها، وقد ظهر لأكثر النّاس وجهه الأصوليّ البارز في سطور كتبه، وخيوط مؤتمراته، وآثار مناصبه في المجامع الفقهيّة المختلفة، ولم يبرز لهم وجهه المغمور الغائب الذي يدلُّ على ثبات النّحويّ، وتمكُّن اللّغويّ، ونباهة النّاقد الحصيف، والمؤلّفات الجمّة الغفيرة التي جادت بها قريحتُه، يدرك فيها المرء تلك الصّفات جليّةً ظاهرةً، وليس أدلَّ على رسوخ قدمه في علوم العربيّة من كتابه الموسوم بـ”مصادر القواعد النّحويّة في ميزان الشّرع والعقل”، وهو الكتاب الذي يسلب فيه عنْه لباس الأصوليّ الخبير؛ ليغوص في بحر علم النّحو تامّ الآلة، يقظ الضمير، غير متهيّبٍ مسالكه الخفيّة ومزالقه العظيمة، فيجده القارئ يدير الكلامَ بقلم النحويّ البارع على المدراس النّحويّة على اختلافها وتباينها في البصرة، والكوفة، وبغداد، ومصر، والأندلس، ويجول جولة الخبير حول مناهج تقعيد هذه المدارس وهو ينقد ما يراه خطأ، ويثبت ما يظهر له صوابُه، ويفعل كلّ ذلك متحلّيًا بإجلال السّابقين بلا بخس، ومؤيّدًا بيقظة العالم الذي ينقد الأشياء ببصرٍ نافذ، ومنطلقًا من التّحرير والتّقرير بقوله: “… قرّرتُ أن أعود عودةً مباركةً إلى نحاة البصرة والكوفة والأندلس ومصر؛ لأحكِّم مصادرهم في التّقعيد النّحويّ إلى الشّرع الكريم وميزان العقل السّليم، وقد أحببتُ فنَّ النّحو كلّ الحبّ، وشُغفتُ به أيّما شعف، وتعلّق به قلبي ونفسي شطراً من حياتي، بل إنّه أخذ حيزاً غير يسير من صباي، وحياتي، ولم أَقْوَ حتّى هذه اللّحظة على تخفيف غلواء ولعي وحبّي له؛ على الرّغم من استيلاء علم الأصول على فكري وعقلي وجوارحي منذ عقدين من الزّمن”.
وعلى هذه الخطى الوئيدة التي يسدّدها العلم، ويدفعها الشّغف؛ مضى بسبيله وهو يستنطق المدارس النّحويّة واحدةً تلو أخرى، ويشخّص فيها محلّ الصّحة والضّعف، ويذهب مذهبًا حسنًا في الحديث عن جدليّة العلاقة بين لغة القرآن الكريم واللّغة العربيّة، وحركة التّقعيد النّحويّ، وأثر منهجيّة المدرسة البصريّة، وما جابهتها به المدارس النّحويّة الأخرى من دروبٍ في الاستدلال، ومدارج في الاحتجاج، وطرائق في الوفاق والخلاف.
فلئن حلَّ اليومُ العالميّ للّغة العربيّة بالنّاس اليوم، فإنّه من الحريّ بالفعل توجيه تحيّةٍ صادقةٍ إلى كلّ القائمين على ثغرة اللّغة العربيّة، والمدافعين عن حياضها، والقابضين – بصبرٍ وتجلُّد – على جمرة تعليمها وبثِّها في العالمين، ومنهم هذا الطّود الشّامخ، ومن حذا حذوه من الصّادقين.

#محمّد_موسى_كمارا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock