السياسةالعمل والمستجدات

«هَوَاتِفُكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ؛ فَاحْذَرُوهَا»

«هَوَاتِفُكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ؛ فَاحْذَرُوهَا»
خلق الله الإنسان وفضّله على كثير من خلقه، وأنعم عليه بنعم عديدة لا تعد ولا تحصى، وذلك من قديم الزمان إلى هذا الأوان، وصدق عز وجل إذ قال في محكم تنزيله: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 36/ النحل: 18]، ومن تلكم النعم اللامحدودة «التكنولوجيا»، التي جلبتِ «الهواتف الزكية»، والتي تركناها تشغل دنيانا، وتَمْلأ حياتَنا؛ يملكها الغني والفقير، ويستأنس بها الكبير والصغير.
تسيطر هذه «الأجهزة» اليومَ على جميع جوانب حياتنا؛ ولا نكاد نستطيع العيشَ بدونها، بل صارت «آفة هذا العصر وسارق أوقاته»، وإن شئتَ قلتَ إنها من أصنام الهوى، ومعبودات النفس!
نعم، إن للهاتف المحمول منافعَ جليلة جلية، ومنها: صلة الرحم وتتبع الأخبار، وتسهيل التحصيل لعلوم الأخيار، يمكّن المسلم من الاستئناس بالقرآن، كما ينبهه عند وقت الأذان؛ ليستعدَّ لِلِقاء الواحد الديان، وهو القائل الرحمان: (فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء: 102].
ومن مفاسده -وهي جمة-: تضييع الأوقات، ونشر الإشاعات، وإفساد العلاقات، وصرفُ همم الزوار في المزارات، وإيذاء المصلين في الصلوات، بل صار رفيقا في الخلوات والجلوات.
وإذا كان الهاتف مقربا للبعيد، فإنه أيضا مبعد للقريب، فكم من قوم يجلسون في مكان معا، وبدلا من تجاذب أطراف الأحاديث يعكف كل واحد منهم على هاتفه محدقا إلى شاشته، سعيا وراء دابة لا يدركها أبدا، ولكم أن تلاحظوا ذلك حولكم… إن أردتم!
وصار الهاتف اليوم لعبة تُستعمل في البيوت لتهدئة الأطفال عند بكائهم، بصرف النظر عن الأضرار الصحية المتولدة من ذلك، كما أصبح شبه ضرورة في حياتنا؛ فلا أحد منا إلا وله قرين من هاتف، يحمله معه دائما حيثما حل أو ارتحل؛ فهو دائما في جيبه أو يده، حيثما يمم يتبعه، بل وقد اعتاد أن يكون هاتفه آخر ما ينظر إليه قبل نومه، وأول ما يطلع عليه بعد استيقاظه. ولسان الحال يقول: «إننا لما أَعْرَضنَا عنْ رَفعِ الهمم في العبادات؛ قَيَّض الله لنا هواتِفَنا قُرناء تَشْغَلُنا حتى عن عباداتنا ومناجاتِنَا»؛ مِصْدَاقًا لقوله تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين) [الزخرف: 35].
وإن من الجفاء وقلة الوفاء، أن يصير الناس سجناء لهواتفهم؛ تتعجبُ حينما تُراقب الناس في الجلسات؛ فإذا كان خالدٌ يُحَدِّق إلى شاشته، فإن زيدًا غارقٌ في التقاط صورٍ يَنْشُدُ نشرَها في مواقع التواصل، بينما يبقى الهمُّ الأول والوحيد لموسى وليلى التسابقُ في نشر الصور والمقاطع، ولم تنج ‪»‬جلسةٌ»‪ ‬من هذه «الظاهرةِ»‪ ‬المبكيةِ المضحكة، نعم، ظاهرة وأي ظاهرة؟! إنها ظاهرة «الجنون الرقمي»! والجنون فنون، وهل بعد هذا الجنون جنونٌ؟!
وهناك فئة أخرى ليست عن هذه ببعيدة، وهي فئة المثقفين الذين بدل أن يجعلوا نصب أعينهم «الدِّينُ النَّصِيحَة» أو «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آية»؛ فإنهم يزلزلون مواقع التواصل بمنشورات وتعاليقَ تكدر صفوة الأخوة الإسلامية ونقاوتها، فهم في هذه الظاهرة ليسوا في العير، ولا في النفير!
وقد صار بعض أهل العلم والأعيان ينشرون صورهم أينما حلوا وارتحلوا؛ وإذا قيل لك: «إن الجنون فنون»؛ فصدق أو الزم الصمت!
وإن القلب يُدمي، ويَدعو إلى الأَسَى والتأَسُّف، لحالة بعض الناس في المساجد والمزارات؛ يكونون مشغولين في هواتفهم، كلٌ يغني لليلاه، وقد صار من أوثان الشهوات، وفخوخ الشيطان؛ لأن كلَّ ما يشغلك عن ربك؛ فهو عليك مشؤوم، وإن النفس إن لم تشغلها بكبائر الأمور؛ شغلتْك بسفاسفها.
وجماع ما سلف، إن الكيس منا من فهم أن هذه الأجهزة داخلة في قوله تعالى (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل: 53]، واستحضر قوله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]، وقيل: «النعمةُ إنْ شُكرتْ؛ قَرّتْ، وإنْ كُفرتْ؛ فَرّتْ».
وإذا كان «المغلوب مولع بتقليد الغالب»، فإن الحداثة تستنبط ولا تستورد، لأن الأمر في بدايته من تجليات الحداثة، ويمكننا أن نكون حداثيين مختارين؛ لأنها لا تقتضي الكف عن الهوية وتقمص هواية الآخر، وهناك فرق كبير بين الحداثة والتحديث.
وفي ذكر هذا كفاية وغنية، هَوَاتِفُكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ؛ فَاحْذَرُوهَا!
‪ ‬
رجب 1439هـ
مارس 2018م
مام مور امباكي حمدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock