
تأملات رمضانية ، ولكن بنكهة فكرية . عبد الرحمن بشير
قرأت الليلة الماضية من شهر رمضان المبارك آية فى سورة النحل ، وأنا أصلي التراويح فى منزلى مع العائلة الكريمة حيث لا يسمح إقامة الصلوات فى المساجد هنا بسبب كورونا وخطورته التى عادت مرة بأخرى بقوة ، وهذه الآية هي قوله تعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم ، فأتي الله بنيانهم من القواعد ، فخرّ عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) الآية رقم ٢٦ من سورة النحل ، وهنا تأملت بعد ذلك ما فى الآية من دروس وعظات لتجربتنا الحالية فى العالم الإسلامي ، فرأيت فى الآية معنى عميقا ، وتجلّى لى فيها فهما متجددا ، وحين عدت إلى كتب التفاسير ، رأيت فيها معاني عدة ، وتأكّد لى منها ما توصلت إليه بعد تأمل طويل ، وتفاعل حي مع الآية :
أولا : أن الآية تحدثت عن المكر البشري ، وعن وجود تآمر على الشعوب المستضعفة ، ولكن الآية تناولت الموضوع بعمق فكري ، ومنحت القضية بعدا سننيا ( قد مكر الذين من قبلهم ) فالمكر ليس مسألة مرتبطة بمنطقة ، ولا بزمن ، بل هو جزء من التدافع الكوني زمانا ومكانا ، ولهذا يحاول أصحاب السلطة ، والظالمون فعل المكر لبقاء الظلم ، وتغييب العدل ، ومحاربة الحق .
ثانيا : تحدثت الآية وجود بنيان اجتماعي يشبه إلى حد بعيد البنيان الهندسي ، وهذا البنيان هو المجتمع ، والمجتمع له مستويان ، مستوى نفسي ، ومستوى ظاهري ، فالمستوى النفسي يمثل أساس البنيان ، بينما المستوى الظاهري يمثل البنيان من خلال مستوياته المتعددة ( المؤسسات الإجتماعية والمالية والسياسية ) ، فهذا هو البنيان ، وتلك حقيقة قرآنية ، فلا بنيان للدولة بدون مجتمع ، ولا وجود لمجتمع بدون فكرة ، والفكرة هي التى تصنع المجتمع .
ثالثا : تحدثت الآية عن سنة كونية وخطيرة ، وهي سنة سقوط الدول ، فالدولة لا تسقط مرة واحدة ، ولا تخرج من التاريخ فجأة ، كما أنها لا يمكن رؤية السقوط بسهولة ، ولهذا نجد الآية تبين الموضوع بإعجاز شديد ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) ، والله حين يبدأ تفكيك المجتمع الفاسد ، فالأمر يكون عبر خطوات متدرجة ، ولهذا كان حرف ( الفاء ) الذى يفيد معنى التعقيب مناسبا للموضوع .
رابعا : هناك أمران مهمان فى الآية ، البنيان من جانب ، والقواعد من جانب آخر ، فالسنة الكونية تعمل عملها مع القواعد ، والناس يتعاملون مع البنيان الذى بدأ يتفكك من القواعد ، ولكنهم لا يلاحظون ذلك بحال من الأحوال ، فقد يكون البنيان قويا من الظاهر ، ولكنه تم التآكل من القواعد ، وتلك سنة ظاهرة فى المجتمعات المتآكلة داخليا ، والتى تنتهى بشكل دراماتيكي ، وحينها يرى الجميع الواقع الجديد ( السقوط ) .
خامسا : حين تنتهى قصة القواعد ، يبدأ المجتمع يتململ ، ويطرح أسئلة الوجود ، وتبدأ صفحة جديدة من التاريخ ( انعدام الثقة ) ، وحين تنعدم الثقة بين سكان البنيان ، يبدأ كل فريق يفكر لمستقبله بشكل غير متسق مع الآخرين ، ومن هنا ، يبدأ البنيان يفقد التماسك ، فالمجتمع القوي لديه تماسك مادي ومعنوي ، والمجتمع الضعيف لديه ميول قوية نحو التفكك ، حينها ينهار المجتمع من الداخل ، وليس من الخارج .
سادسا : هنا تبدأ قصة النهاية ، وليست البداية ، وأغلب الناس يعرفون قصة النهاية ، ويحسبون أنها البداية ، ولهذا تجدهم يتحدثون عن سقوط الدول الكبرى تاريخيا ، فالإتحاد السوفيتي خرج من التاريخ فى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين ، ولكنه فى الحقيقة بدأ يفقد القواعد فى وسط الخمسينيات من القرن العشرين ، والدولة فى الصومال سقطت فى بداية التسعينيات من القرن العشرين ، ولكننا فقدت القواعد فى بداية رحلة الدولة فى الستينيات من القرن العشرين ، فالمسألة ليست رحلة عادية ، بل هي رحلة معقدة تناولتها الآية بعمق.
سابعا : السقوط فى الآية عجيب ( فخرّ عليهم السقف من فوقهم ) ، فالدولة تعنى فى المفهوم القرآني ( الفوق ) والفوق هو السقف ، والسقف هو الذى يحمى من فى البنيان من عاديات الخارج ، إنها لفتة رائعة من لفتات القرآن ، وروعة من روائع كتاب الله ، فالسقوط خطير ، لأنه يسقط بفقد البنيان ، والبنيان أصبح بلا قواعد ، ومن هنا ( خرّ ) على الجميع السقف ، وأصبح الناس بلا سقف أي بلا دولة .
ثامنا : سقوط الدولة ليس نهاية ، بل هو مرحلة من المراحل ، هنا يبدأ المجتمع يدخل مرحلة جديدة ، وهذه المرحلة الجديدة ليست عادية ، لأنه ليس هناك سقف يحمى الناس ، وليس هناك قواعد يرفع البنيان ، وفقد الواقع البنيان الذى يأوى إليه الناس أفرادا وجماعات ومجتمعات ، ومن هنا تأتى مرحلة ( التيه ) أو ما يسمى بخراب المجتمعات ، فالإستبداد مرض ، والحروب الأهلية عرض لهذا المرض ، والبديل من سقوط السقف ( الفوضى ) .
تاسعا : تنتهى الدولة كمؤسسة ، ولكن نهايتها لا تعنى نهاية المجتمع ، ولا نهاية التاريخ ، ولكن تبدأ رحلة جديدة ، وهي رحلة العذاب ( وأتاهم العذاب ) وهنا نجد مرة أخرى معنى عميقا ، وهذا المعنى يمكن فى أن المفردة القرآنية جاءت مع حرف ( الواو ) ، والواو غالبا يفيد المصاحبة خلافا لحرف ( الفاء ) الذى يفيد التعقيب ، فالسقوط يصاحبه العذاب ، ولهذا قال تعالى ( فخرّ عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب ) ، وهذا يفيد بأن الفوضى عذاب ، كما أن التأله السياسي يمثل عذابا .
عاشرا : إن أغلب الناس لا يعرفون القواعد التى تحكم الحياة ، وليس من السهولة معرفة ذلك ، فهذا أمر خطير ، وغاية فى التعقيد ، ويحتاج إلى نوع من التأمل العميق ، والعيش مع كتاب الله طويلا ، والقراءة العميقة للسنن التى تحكم الحياة ، ولهذا يأتى العذاب عند أغلب الناس فجأة ، وما هو كذلك ، ولكنه هكذا يبدو من الظاهر ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .
قد لا يكون واضحا كيف تكون النهاية ؟ وكيف يكون السقوط ؟ ولكن من الواضح فى الآية أن السقوط نتيجة ، وليس سببا ، وأن العذاب ليس هو البداية ، وإنما هو مرحلة متقدمة فى السقوط ، وهناك مراحل ما بعد العذاب ، وتلك المراحل تتمثل فى التيه .
إن كتاب الله عجيب ، ويحمل فى طياته مشروعا متكاملا فى فهم الحياة كما هي ، وليس كما نريد ، والمشكلة دوما العيون التى تقرأ هذا الكتاب ، وكم كان عظيما الأستاذ جارودي رحمه الله حين أكد بأن المسلمين اليوم يقرؤون القرآن بعيون ناعسة ، او مريضة ، أو ميتة ، والفكر الميت لا يصنع الحياة ، كما أن الفكر المريض يصنع حياة مريضة .