
الشيخ مور جوب: معلما، مربيا ومكونا!
الشيخ مور جوب: معلما، مربيا ومكونا!
بمناسبة مرور 40 يوما على رحيل مولانا المربي المجاهد الشيخ مور جوب_ عليه رحمات الله وبركاته ورضوانه_ نعيد نشر هذه السطور التي كانت مدونة قبل وفاته بسنتين….
ولما أراد الله صيانة كتابه وسيرورة أحكامه وآياته في كل عصر، ومكان وحال، تكفَّل سبحانه وتعالى بحفظه، قال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر …. )، لكنه وكَّل هذه المهمة الشريفة في كل عصر على رجال مجاهدين في خدمة كتابه؛ بِتعلُّمه وتعليمه، ونشره، ودعوة الناس إلى التمسك به، ومن هؤلاء مولانا المربِّي الحكيم، الشيخ مور جوب، خادم القرءان الكريم ( حفظه الله )، الذي ظلَّ في أكثر من ثلثي قرنٍ يخدُمُ كتاب الله بمدارس أقامها، ومُعلِّمين مُربِّين ربَّاهم، ورجالا صالحين غيُورين على دينهم ووطنيتهم كوَّنهم، فشاع صيته في الآفاق، وانتشرتْ سَمْتُه بين الكرام.
المشوار القرءاني والعلمي للشيخ مور جوب_حفظه الله_
يَحسُنُ بنا ونحن نُحاوِلُ التوقُّف على منهجه الدقيق في التربية والتكوين أن نتعرف أولا على المشوارِ القرءاني لهذه الشخصية القرءانية الفريدة، التي باتت عمدة عظيمة من أركان الدارت القرءانية السنغالية لِتَعرف على سِرِّه المكنون، والعناية الربانيَّة التي أولاها المولى عزَّ وجل على عبده مولانا المربِّي سرين مور، وتقِف أيضا على الكِفاحِ المُستمِرِّ الذي دَأب ولازمَ عليه الشيخُ منْ لدُن النَّشأة إلى وقت كتابة هذه السطور.
أخذَ المُربِّي ”سرين مور جوب” القرءان الكريم في ظروفٍ صعبة وحالات مُتدهوِرَةٍ؛ يتيمًا، قصيرَ اليد، بِصِحَّة مُضْطَرِبة في بِيئاتٍ انجامْبُورِيَّةٍ رِيفِيَّةٍ مُتَوَسِّطَةِ الحال، لكنَّ ذلك لم يَزِدْهُ إلَّا عَزْمًا وتطَلُّعًا إلى المراقِي العلِيَّة، فتلقَّى القرءان مِنْ شيوخ كثيرين وفي مدارس مُتَنَوِّعة تحقِيقًا لحفظِه وإتقانه، بَدْأً من شيخه الأول سرين عبد الله غايْ بن سرين بار فاط امبوج غاي في قرية دارُ غَايْ، مدرسة الشيخ بار فاط امبُوج غايْ أحد شيوخ انجامبور. وفي هذه المدرسة بدأ التهجِّي وحفظ قِصار السور، ثم أصابه مرضٌ شديدٌ فرجع إلى أهله في قرية كر ما أنت جوب.ولما عافاهُ سبحانه وتعالى من ذلك المرض، وتحسَّن حالُه قرَّر الرِّحلة لحفظ القرءان الكريم، بعد أن تعلَّم من عمه سَرِينْ مانْتَ فاطِ غاي جوب بعضا من القرءان الكريم، ثم رحل إلى قرية سِنْجِيجْ قُربَ مدينة انكِنِكِنيوْ عند خاله سرين مياسِنْ جُوبْ الذي انتقل بعد استقرار سرين مور هُنَيْئةً عنده مِنْ سننْجِيجْ إلى جَخاو صِلَّه، تاركًا مسؤولية إدارة المعهدَ لتلميذه الفاضل، السيد عمر سيس، وعليه واصل سرين مور قراءته، فتميَّزَ بِنُبُوغِه وتَفانِيه في تنفيذ أوامر مُعلِّمه وخدمته خِدْمةً مُنْقَطِعةَ النظير.
ومما حَكَى لنا في ذلك أنَّ مُعلِّمَه سرينْ عمر سيس أتى إليه مرة _ في رمضان_ وهو مُنكبٌّ على عملٍ شاقِّ يَتَطَوَّعُه لخدمة شيخه، فتعجَّبَ منه الشيخ تعجُّبا، ثم سأله هل تعرف جدَّك مُورْ مانْتَ؟ فأجابه سَرِينْ مُورْ: نَعَم أسمع عنه، فقال له الشيخ: جعل الله لك بركته، وكان جده هذا كان من كبار العلماء الربَّانِيِّين في انجامبور.
ومن أيامه في مدرسة سِنْجِيجْ أن شيخها نادى الطلبة أجمعين يومًا مَا يطلبُ منهم رسولا يُرسله في مَهمَّةٍ إلى امْبَرْ، وهي قرية تقع بين كُلُبانْ وجيب، وبعيدة عن سِنْجِيجْ، فلم يسْتَجِبْ أحد منهم طلبَه كي لَّا يفوتهم درس ذلك اليوم، ثم سأل الشيخ أين مور؟ فقيل له: إنه غائب، غير موجود، فقال: إذا جاء مُورْ سيقضِي حاجتي، وبينما هم في ذلك أتى سرين مُور صُدْفَةً، فعرضَ عليه الشيخ طلبه، فقبِل الذهاب ولو بِفوات درسه اليومي طلبا لبركة شيخه، فرضيه الشيخ على ذلك رضاء مشهورًا ودعا له بالبركة والقبول.
فلما قضى مُدَّة في تلك المدرسة شدَّ الرحال إلى الشيخ مَدُ مَامْ في قرية بُودِي مكث عنده سنة يقرأ ويُصحَّحُ قراءته، ثم إلى قرية تَمَّاكْ، كما ارتحل مُجَدَّدا إلى مدرسة مَسُرَنْ عند خاله سرين بالَّ جوب. ثم ارتحل بعد ذلك إلى مدرسة تَمْبُ دِمِينْ، وهي قرية بين انجانج واندويين ليقرأ على الشيخ مَدُنْ دِمْ، ومن هناك رُزِقَ الحفظ الكامل المُتقن كما كان يريد، وفيها تمت الرحلة القرءانية التي استغرقت سنوات عديدة، في أجواء مضطربة، وظروف قاسية لا تُطاق إلَّا بتوفيق من الله.
ولَمَّا حفظ القرءان الكريم وأجاده شدَّ رحلات علمية إلى عديد من علماء مشهورين بين انجامبُورْوسالُومْ واندر فَتَرَدَّدَ بين أحْضانهم حتى فاق وتضلَّع، فتوَجَّهَ إِلى مَنْحًى آخر، وهو العمل بما علِم، والتعليمُ به، والدَّعوةُ إليه، فأسَّسَ مدْرستَهُ القرءانية الشهيرة في حي بلكوس بمدينة اندر، قبل أن ينقلها إلى حي انجامَكَنْ، ثم إلى حي صُورْ دَغا مقرُّهُ الحالي، كما أنشأ مدارس أخرى مُلْحقة بالمعهد الأُمِّ في داخل مدينة اندر وخارجها. كان الشيخ وما زال (حفظه الله) مُعلِّما مُربِّيا يتَمسَّكُ بالأصيل ويراعي الواقع، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة. فتخَرَّج منهُ أجيالٌ من علماء، وأَئمَّة، ورِجال أعمال، وموظَّفين، وأصحاب مِهن، ومؤسسيي مدارس أخرى يحملون رسالته ومنهجه.
وإليكم أبرز وسائل التربية ومنهجها عند المربي الحكيم الفَذِّ مولانا سرين مور جوب:
1 _ الطلبة أمامه سواسِيَّةٌ كأسنانِ المُشط، لا فرق بين ولد الصُّلب وولد القلبِ
مما يتغَنَّى به المُتَخرِّجُ من معهده مقالته المشهورة: (تلاميذي أولادي)، وتترجم هذه العبارةُ المحبة الشديدة التي يُكِنُّها الشيخ لتلاميذه، دون تمييز بينهم، فيُولي عناية بالغة المدى في تربيتهم وكفالتهم ورعايتهم بإعطاء كل ذي حق نصيبه، من غير أنْ يُفرق الشيخ بين أولاده البيولوجية وأولاده الروحية، فيُسَوِّي بينهم في كل شيء كفالةً ورعايةً وحضانة، إلى درجة قد يتساءل البعض هل أولاد الشيخ معنا في المؤسسة أم لا؟ لأنَّ الشيخ يضعهم على وِفق واحد، ويُسَوِّي بينهم كأسنان المُشط، ويكون الشيخ أمام تلميذه أبا رحيما،أما بَرَّةً، طبيبا مُخلِصا يناديه بأحسن الأسماء، فيُنْفِقُ فيه النَّفسَ والنفيس، ويكون حارسا يطوفُ بهم وهم نُوَّم….
2_ التربية بالحال
من أنجع الوسائل التربوية؛ التربية بالقدوة الحُسنى، فكان الشيخ حفظه الله يُربي بِمقاله وبحاله، ومِثالا يحتذي به الطالب فيشحذُ همته، وكان صوَّاما قوّاما يتلوا القرءان آناء اليل وأطراف النهار، مؤمنا، مُسْلما مُحسِنًا، مُعتدِلًا في تصرُّفاته، دَمثَ الخُلُق، ليِّنَ الحانب، زاهدا عن حطام الدنيا وزخرفتها، ورِعا يزهد عن بعض المبيحات، فضلا عن المنهيات فهو مِلَاكُ الخصال الحميدة، يَتَّسِمُ بها ويُلقِّيها على تلاميذه، ويحرص دوما على ترجمة أقواله وتوجيهاته إليهم بما يصدر منه من ممارسات وتصرفات. وما بنى معهدًا إلا وبجانبه مسجد يُطَبَّقُ فيه ما يُتَلَقَّى من العلوم، يحثُّ التلميذَ على مُواظبة المسجد ومراعاة أوقات الصلاة، فيختار من التلاميذ مؤذنين، فكثيرا ما يفرغ من الصلاة ثم يطوف الغرف والسكن ويراقب الغائبين عن الصلاة فيعظهم.
3_ التربية بالموعظة الحسنة
من الأساليب التربوية الأكثر فعَّالا في تكوين المربَّى وتهيئتِه تربيتُه بالموعظة الحسنة، وتذكيره بأخبار السلف لما في النصيحة من أثرٍ كبير في تبصير المُرَبَّى حقائق الأمور، وحضّه إلى المراتب العلية، ولذلك سلك القرءان الكريم هذا المسلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أخبار الأمم السابقة وقصصهم فاتَّعظوا بهم، وعلى هذا؛ فلا غروَ حينما نجد مُرَبِّينَا سرين مور يَتَبَنَّى هذا المنهج، فكان ( حفظه الله ) يجمع الطلبة في أوقات الفراغ، وخاصة في أيام الخميس والجمعة، وفي كل يوم تسنح الفرصةُ يعظُهم ويُقدِّمُ لهم نصائح، ويذكِّرُهم بما لهم من واجبات ومسؤوليات.
كان المربي سرين مور (حفظه الله) يعقِدُ مع الطلبة لِقاءات مُختلفة؛ لقاءٌ عامٌّ يحضره جميع الطلبة كبارا وصغارا يعظهم ويذكرهم، ولقاء خاص يعقِدُه مع الكبار منهم، فيشحذُ أذهانَهُم ويصقُل هِممَهم، يُحَدِّثُ ويُبْكِي، يَعِظُ فيفتح القلوب، فلا يسْتَعْجِلُ أحدٌ مِنهم نِهاية الجِلسة، ولا يزال طلبتُه يَتَغَنَّوْنَ ويحفظون قِصَصًا وأخبارا من حياة السلف المستفادة من جلسات الشيخ.
ومن منهجه في الموعظة اختيارُ الوقت المناسب وانتهازُ الفرصة السَّانِحة؛ فتارة تحدُث حادثاتٌ، أو تصدر أخطاء من بعض الطلبة فلا يُولي لها الشيخ اهتماما حتى تظهر فرصة مُناسِبة، فيدعُوا الجميع، ويشير إلى كل التصرفات والأحداث الماضية بعبارات إيحائية يفهمها الناس ويعتبرونها.
وأنَّ من أسلوبه الناجع في التربية أيضا عدمُ توجيه خِطاب الَّلوْمِ والعِتاب إلى المُخْطِئِ مُباشرةً؛ فعندما يتركَّبُ أحدُ طلبته خطأ لا يَفْضَحهُ ويجرحُه أمام إخوانه الطَّلبة، بل يُجمعهُم أكتعينَ ثم يعِظهم بضمير الجمع، فيفهم المُخطِئ ويَعْتَبِرُ غيره.
4_ تذويبُ الفَوارِق الاجتماعية والسَّلوكية
إنَّ الكتاتيب القرءانية هي السَّاحة الواسِعةُ التى تَحْتَضِنُ كل عناصر المجتمع بلغاتها، وعاداتها، وتَوَجُّهاتها الفكرية والسَّلُوكِيَّة، فيفِدُون إليها لهدفٍ واحد، وهو تَعلُّمُ كتاب الله تعالى وعلومه، واكتساب التربية الإسلامية، وبناء على هذا القصد العظيم كان مولانا المرَبِّي سرين مور جوب ( حفظه الله ) على وَعْيٍ ومعرفة لأحوال التلاميذ وحاجاتهم المعرفية فيراعيها، حيثُ كان يجتمعُ حوله طلبة من أصقاع مُختلِفة، ولهجاتٍ مُتنَوِّعةٍ، وأعْرافٍ مُتعدِّدةٍ مع انتماءاتهم الفكرية أو السلوكِيَّة المُتبايِنة فيستقبل الجميع ويُربِّيهم وِفْقَ مَنهَجٍ واحِدٍ مُتكامل يتقاسمُه كلُّ الواردين، ويحرصُ على إعطاء كلِّ ذي حَقٍّ حقَّهُ من التحصيل والتَّنْشِئة، بِغَضِّ النظر عن خُصُوصِيَّاته، وكأنه يرفعُ شعارَ الإسلامِ الفَسِيح المُشترك بين المسلمين، ويُذِيبُ الِاعتِبارات الضَيِّقَة، وعلى هذا المنهج الجامع يتعلَّم الطالب عند شيخنا ويَتَرَبَّى بِانتظامٍ على يديه حتى يبلغَ قصده من التكوين ثمَّ يعود إلى أهله بما كان عليه قبل المجيء إليه مِن الِانتماء الطائفي أو الفكري.
وهكذا كان الشيخ يسهر على تعليم الطالب وتربيته، مع ترْكِه لنفسه بِعدم التَّدخُّل أو التطرُّق لقضايا التوَجُّهات السلوكية.
5_ مُراعاةُ رَغباتِ الطَّالِبِ المُربَّى واستعداداتِه الفطرِيَّة والعقلية
وقد قرَّر علماءُ التربية على وُجُوبِ مُراعاة مُيول الطِّفل المُرَبَّى، واستِعداداتِه الفِطرِيَّة، وقدراته الطَّبِيعِيَّة بإرشادِه إلى التخصُّص الذي يُلائِمُه، أو المهنة التي تناسِبُه.
ومِنْ ملامِحِ منهج مولانا سرين مور في التربية ادْراكُه لاختلافِ طبائع الطلبة وتفاوُتِ قدراتهم العقلية، ورغباتهم التخصُّصِيَّة، وظروفهم الاجتماعِية، فيضع كل طالب في المكان المُناسب له، ويُوجِّهُه إلى التخصص أو المِهنة التي تتَّفِقُ مع مُيُولِه.
ولمَّا كان الطلبة الوافِدُون عليه صنفين؛ صِنف أتى إليه لِتعَلُّمِ كتابِ الله ثم يعود إلى أهله، وصِنف سَلَّم وَلِيُّه زِمامَ أمورِه للشيخ، فعليه تعليمُه وتربيتُه، ومُساعدتُه لمُواصَلة دراستِه، أو توجيهُه إلى اكتسابِ الحِرْفة والتكوين المِهني إنِ اقتضَى ذلك الحالُ، كان سرين مور ( حفظه الله ورعاه ) على معرفة تامة بِحاجيات الناس وظروفهم الاجتماعية، وقد تحمَّل الشيخ مسؤولِيَّاتِه أحسن تحمُّلٍ، حيثُ كان ولا يزال ينظُرُ في أحوال الطَّالب، فإنْ كان نابِغا، وعندهُ الرَّغبة في مواصلة دراسته ساعدَه على ذلك، وسَهّل له أسْبابَ الوُصول ( المادِّيَّة والمعنوِيَّة ) إلى غايتِه وتحقِيقِ هدفِه، وإن كان عنده الميلُ إلى تعلُّمِ صِناعة من الصنائع، أو كانت ظروفه الاجتماعية تَتَطلَّبُ منه اكتساب الرزق لِسَدِّ حاجِيَّاتِ أهله فيختارُ له المِهنة المُناسِبة، ويُيَسِّرُ له السُّبُل حتى يصِلَ إلى هدفِهِ المنشود فيُصبح عامِلا فنِّيًا، يُدِير مراكز خاصة له، ويظلُّ حُرًّا مُسْتَقِلًّا بِنفسه، يعيشُ مِنْ عرقِ جَبِينِه.
وخلاصة القول في هذه الشخصية القرءانية الفذَّة؛ أنَّه عالِمٌ ورِعٌ، مُقرِئٌ مُخلِص، مُربٍّ حكيم، جمع بين التعليم، والتربية، والتكوين المِهني، فقدَّمَ لِلأُمة نموذجًا مِثالِيًّا للمدرسة القرءانية الأصيلة الحديثة، والجامعة بين الأصالة والمُعاصرة.
مَتَّعنا الله بطول عمره وصِحة جسمه، وزيادة خيره.
عبد الله جوب خادم معهد تيسير العسير( دار شيخ مور جوب ليبر / اندر)