السياسةالعمل والمستجدات

رحلة وحكمة . عبد الرحمن بشير

رحلة وحكمة . عبد الرحمن بشير
…………………………. …………
فى الأسفار علم وحكمة ، وفى الرحلات تجارب وخبرات ، وفى السير على الأرض مدارسة ومناقشة ، قد تناقش حينا الحياة ، لأنها ليست صامتة كما يبدو من ظاهرها ، وقد تناقش أحيانا بشرا تلتقى معهم فى الحياة ، فالمشكلة أن تعيش مع أناس يشبهونك فى الفكرة ، بل وفى المظهر ، ولكن حين تعيش مع أناس يختلفون عنك فكرة ، ولديهم رؤي مختلفة ، ونظرات من زوايا مختلفة عن الحياة ، حينها تتعلم أكثر ، وتتعرف أكثر ، وتتدرب أكثر .

خرج نبي الله موسى عليه السلام إلى رحلة غريبة وعجيبة من موطنه إلى مجمع البحرين مصاحبا غلامه ، ويحمل شيئا من الزاد لأجل آن يلتقي برجل يعلم شيئا آخر ، وعلما آخر ، وهو نبي مكلّم ، ورسول يوحى إليه ، ولكن الرجل الذى يذهب إليه يعلم علما غريبا ، ومعرفة لدنيّة غير معلومة لدى نبي الله موسى عليه السلام ، ومن هنا وقع الصدام بينهما ، ونحن من خلال هذه الرحلة تعلمنا كثيرا ، وما زلنا نتعلم منها أكثر .

جاء موسى عليه السلام فى مجمع البحرين ، ووصل بقدر من الله ، وهذا النبي الكريم عليه السلام شخصية عجيبة ، ويحمل فى طياته شخصيات مختلفة ، فهو إنسان عفوي ، يقول سريعا ، ويتكلم سريعا ، ويعمل سريعا ، ويقدم الخدمات سريعا ، ويأخذ القرارات سريعا ، فهو قائد ملهم ، وزعيم عظيم ، ولكنه من نوع فريد ، فقتل مرة رجلا بضربة واحدة ، وخرج من موطنه مهاجرا خائفا يترقب ، وذهب إلى أهل مدين ، وقدم خدمة جليلة لفتاتين تذودان ولا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، وكان أبوهما شيخ كبير ، وسقى لهما بدون أجر دنيوي ، وذهب إلى الظل فى بلاد الغربة يسأل ربه ( إنى لما أنزلت إلي من خير فقير ) ، فالرجل ليس عاديا ، بل هو إنسان يحمل فى داخله شخصيات عظيمة عليه السلام ، وهكذا كل قائد ، فليس شخصا واحدا ، بل هو شخص يحمل فى الداخل شخصيات عظيمة .

هناك فى مجمع البحرين ، التقى بالرجل الصالح ( الخضر ) ، وهذا الرجل لديه علم مختلف ، ورؤية مختلفة ، ومنطلقات مختلفة ، ويتوصل بشكل مختلف إلى نتائج مختلفة من خلال معرفته ومعلوماته المختلفة ، ولدى نبي الله موسى عليه السلام معلومات ومعارف ، ولكنها من منطلقات مختلفة ، ولهذا يتوصل هو الآخر إلى نتائج مختلفة ، ومع هذا طالب نبي الله موسى عليه السلام مصاحبة الرجل فى رحلة تعليمية ، وسفر تدريبي ، ولكن الخضر عليه السلام يعرف خطورة الأمر ، وتعقيد الموضوع ، ولكن كما قلت : إن نبي الله موسى عليه السلام ليس شخصا عاديا ، فطالب بشكل قاطع ومع أدب بالغ أن يصاحب الخضر عليه السلام قائلا : ( هل أتّبعك على أن تعلّمنى مما عُلّمت منه رشدا ؟ ) ، فى هذه الكلمة القصيرة عدة مسائل ، الأولى ، طلب المصاحبة من الطالب ، والثانية ، الأدب البالغ فى المطالبة ، والثالثة ، الهدف من المصاحبة ، وهو التعلم ، والرابعة ، الهدف من التعلم ، وهو الرشد ، والخامسة ، إمكانية الإستفادة من الفاضل عن المفضول ، والسادسة ، التعلم يتطلب إلى إذن صاحب العلم والمعرفة ، وذاك منهجية توصل إليها الغرب مؤخرا فى جامعاته .

يأتى نبي الله موسى عليه السلام إلى رجل غير معروف فى العلم ، ويعيش فى منطقة نائية ، ولديه خبرات خاصة به ، ويفسر الحياة من زاوية أخرى ، ويتحرك لذلك زعيم أمة كاملة ، وقائد شعب ، ورسول كريم من الله ، فهذا يحمل رسالة إلى القيادات الفكرية والسياسية التى شاخت ، وتوقفت عن الأخذ ، وقل لديها العطاء ، واقتربت من ثقافة الشارع ، وتفكير العامة .

ينطلق الخضر عليه السلام من واقع آخر ، ويعرف خطورة المعرفة التى يحملها ، ومدى تعقيداتها ، ومن هنا قال لموسى عليه السلام : ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) ، هكذا بحزم وجزم ، فالمسألة ليست واضحة عنده ، فهو يفسر الحياة روحيا ، ويقرأ من زاوية أخرى ، وقد لا يقبل تلك القراءة نبي الله موسى عليه السلام ، فهو لا يتعامل مع الأشياء فى ظواهرها ، بل يتعامل معها بمنطق آخر ، وينظر إلى المآلات بنور الله ، ويقرأ التوقع بشكل مختلف ، ومن هنا فالإنسان لا يستطيع أن يصبر على فهم ما يحدث حين لا يملك له تفسيرا ، ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )

العلم يحتاج إلى أربعة أمور ، القراءة الشاملة والمحيطة ، والصبر على العلم ، وعدم الإستعجال فى التوصل إلى النتائج ، وانتظار النتائج حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وذاك يكون حين يتيقن الباحث أن الحقيقة قد انجلت ، أو توصل الباحث إلى ظن راجح ، والظن الراجح علم معتبر فى كل المسائل ، وكل ذلك يتطلب إلى إيجاد روح الإنسان الباحث ، ومن هنا كانت كلمة الخضر عليه السلام لموسى الكليم عليه السلام عميقة فى المعنى ، ومهمة فى الغاية والهدف ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) .

إن موسى الكليم عليه السلام كعادته العفوية ، وقوته الذاتية ، وشخصيته الوثابة نحو المعالى أجاب بسرعة : ( قال : ستجدني إنشاء الله صابرا ، ولا أعصي لك أمرًا ) ، هنا نجد أن العلم يتطلب إلى ثلاثة أمور ، الجدية فى التعلم ، والصبر على حصول المعرفة ، فالمعرفة السطحية تتطلب إلى استماع المحاضرات والكلمات ، وقراءة الكتب السهلة ، ولكن المعرفة الدقيقة تتطلب إلى مجالسة العلماء ، وقراءة الكتب ذات النكهة الخاصة ، والبحث عن الدراسات الجادة ، وعدم معصية العالم حين يخالف مقررات منهجك ، أو طريقة تفكيرك ، فهذه سذاجة نجدها عند شباب الصحوة كثيرا .

ذهب موسى عليه السلام فى هذه الرحلة الغريبة والعجيبة ، وهي رحلة يتعلم منها كثيرا ، ولكنه كعادة نبي الله موسى عليه السلام لا يملك أن يصبر فيما يراه من معلومات مخالفة لشريعته كنبي ، ويقوم بها شخص غريب ، ولكنه صالح ، فهو مزكّى من الله ، ويعمل فيما يعمل بأمر من الله ، ويجتهد فى التوصل إلى نتائج عجيبة جدا ، والرحلة ليست عادية كما قلنا ، ولأنها تكون بين رجلين عظيمين ، أحدهما يعلم علما اختص به ، والآخر نبي مكلم ، ورسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، وقائد كبير يقود مسيرة شعب تائه ، ، ومن هنا قال الخضر لموسى عليهما السلام : ( فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيئ ، حتى أحدث لك منه ذكرا )

لقد قبل موسى عليه السلام الشرط ، وهو شرط واضح ، فالسؤال هنا ممنوع قبل الإذن ، وذاك صعب على شخصية موسى الموصوفة بالجرأة والشجاعة ، فكيف يقبل أن يأخذ علما بدون فهم ؟ وكيف يسكت عن أخطاء واضحة لديه شرعا ؟ وكيف يحمل فكرا بدون مناقشة علمية ؟ هذه ليست طريقة موسى عليه السلام ، ولكن المعرفة فى بعض الأحيان لا تأتى من خلال المناقشات ، بل تأتى من خلال الصبر على القراءة الإحاطية ، أي المعرفة الشاملة روحا ومادة ، حاضرا ومستقبلا ، سننا ووراء السنن ، وكل ذلك يتطلب إلى الإيمان بأن العلم الذى عندنا ليس إلا نقطة فى المحيط ، ويومها يتواضع الإنسان ، ويترك الكبر ، ومع هذا فالمسألة ليست سهلة كما يحسب الكثير من الناس .

فى هذه الرحلة العجيبة يقوم الخضر بحركات غير مفهومة فى ظاهرها ، فخرق سفينة رائعة بدون إذن أهلها ، ومن هنا خاف موسى عليه السلام ( أخرقتها لتغرق أهلها ) ، وبعد برهة من الزمن ، يآخذ ولدا يلعب مع الأولاد فيقطع رأسه بيده عن جسده ، وينطلقان ، ثم يذهبان وينطلقان إلى قرية استطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما ، ومع هذا وجد جدارا يريد أن ينقض فأقامه بدون أجر ، وكل ذلك عند موسى الكليم عليه السلام غير مفهومة فى الظاهر ، وفى كل مرة يصحح ، ويقوّم ، وينكر ، ويرفض ، ولكن الخضر عليه السلام يذكره بالشرط ، ويخبره بأنه لن يستطيع معه الصبر فى هذه الرحلة ، ومع هذا فموسى الكليم عليه السلام يعتذر بسرعة وأدب ، ولكن الرحلة انتهت بعد أن قدم الخضر لموسى عليهما السلام التفسير لما قام به من أعمال ظاهرها الخطأ ، وفى مآلاتها الصحة ، وحينها فهم موسى عليه السلام أن الحياة تحتاج إلى معرفة وتفسير ، وإلى قراءة إحاطية ، وليست فقط إلى قراءة مكثفة ، وفهم موسى عليه السلام أن الحياة ليست ظاهرة وواضحة ، بل فيها من التعقيدات ما الله به وحده عليم ، ولهذا فلا بد من الصبر فى فهمها ، وقراءة الحكمة من مساراتها .

فى القصة دروس كثيرة ، ومنها أن الزعيم سواء كان فكريا أو سياسيا حين يتوقف عن طلب المعرفة يشيخ فكريا ، ولا يملك أن يقدم الحلول تلو الحلول ، كما أن الإنسان الذى يحسب أنه قد علم فقد جهل كما قال الإمام الشافعي رحمه الله ، فالحياة من شأنها الإستمرار ، والتغير ، والإنسان حين يقف عن التعلم يحسب أن الحياة قد توقفت ، فهو وحده توقف ، ولكن الحياة تسير نحو الأمام .

إن الحياة رحلة ، وأهم ما فى فيها هو التعلم الدائم ، والتعلم الدائم يتطلب منا القراءة الدائمة ، والقراءة الدائمة والمستمرة تعطى الإنسان نتائج مذهلة ، ولهذا وجدنا اليوم فى منطقتنا بأن الأزمة التى نشكو منها فى غالبها فكرية ، والخروج منها يتطلب إلى رحلة نوعية من عالم السكون إلى عالم الحركة ، وفى قصة موسى مع الخضر عليهما السلام عبرة لمن يعتبر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock