الدين و الترييةالسياسةالعمل والمستجدات

الوحدة والتَّسامح بين المسلمين

الوحدة والتَّسامح بين المسلمين

الوحدة

ويعرف التسامح اصطلاحاً على أنه القدرة على العفو عن الناس، وعدم رد الإساءة بالإساءة، والتحلي بالأخلاق الرفيعة التي دعت إليها كافة الديانات والأنبياء والرسل.

لقد حَثَّ الله تعالى الأمة الإسلامية على الوحدة فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [ سُورة المؤمنون: 51 -52].

وكما نهَى عَن التفرُّق الجالب والمفضي إلى الضّعف والاضمحلال، حيث قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من الآية:103]:

وقال الإمامُ القرطبي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: “إن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفُرقَةَ، لأن الفُرقَةَ هَلَكَةٌ، والجماعة نجاةٌ، روي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – في الآية الكريمة: ” أن حبل الله هو الجماعة “.

عناصرُ الوحدةِ

ولوحدة المسلمين عناصر ذكرها العلماء وهي ما يلي:

1- وحدة العقيدة، فأصول الأمة هي أصول عقدية واحدة، تتمثل في الأمة الإسلامية المتوحدة بأصول الدين.

2- وحدة العمل، فيتعاون المسلمون فيما اتفقوا فيه، ويعذرون بعضهم فيما اختلفوا فيه، فالاختلاف هنا اختلاف في النوع وليس اختلاف تضاد، لا يؤثر سلبًا في إسلام الفرد، ولا في وحدة المسلمين.

3- وحدة المصدر، أي وحدة مصدر التشريع، ووحدة القيادة، والمصدر هنا الوحي الممثل في الكتاب والسنة النبوية.

4- وحدة الهدف، وتتمثل في تحقيق الحاكمية لله بالحكم بما أنزل الله. وحدة الأخلاق، ووحدة الخصال والمكارم، وينبع ذلك من لزوم التحلي بالأخلاق قبل العمل والانطلاق.

5- الوحدة الثقافية، وهي الثقافة المستمدة من تراث الأمة وتاريخها.

6- وحدة المشاعر، فالمسلمون بحاجة إلى تكثيفها وجعلها وقودًا للعمل.

أهمية الوحدة بين المسلمينَ

ومن المعلوم أن غياب الإخاء بين المسلمين اليوم على الوجه الذي شرعه الله عز وجل قد جعلهم أشتاتًا متفرقين، وفي كثير من الأحيان متنافرين متنازعين، فوهنتْ – تبعًا لذلك – قوَّتهم، وسهُل على الأعداء كسرُهم ودَحْرُهم.

وقديما قال الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعنَ تكسُّرا = وإذا افترقن تكسَّرتْ أفرادا

وها هو ذا الشيخ التجاني سرين عبد العزيز سه الدَّباغ – رضي الله عنه -، الناصِح الأمين الذي كان حريصا على لمّ شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم، ومما يؤثر عنه قوله : ” لو أمرت أن أضحّي بنفسي لوحدة المسلمين لفعلت !! “.

من مظاهِر الوحدة

التَّعَاون عَلى البرّ والتَّقوى

لقد كان الشيخ الخديم – رضي الله عنه – يُوصي أصحابه الكرام كثيرا بالتحلّي على مكارم الأخلاق وتقوى الله العظيم، واقتفاء سنة نبيه الكريم ، وبالتعاون على البر والتقوى والخيرات مع جميع المسلمين في كافة أنحاء العالم، والتكافل بين أفراد المجتمع ويشجعهم على التسامح والتعاطف، وكما كان يُجنبهم من جميع المناهي والمنكرات عملا بقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ سُورة المائدة (2)].

وقال في مَعرض الحثِّ والحضِّ عَلى التّعاونِ بالبرّ والخَير فِي منظومته “منور الصدور”:
وخَالط المُؤمن بالتعاوُن = أمَّا عَلى الأذى فلا تُعاونِ

وقال في وصيتهِ قبيل غيبتهِ البحريةِ: ” وإن أتاكُم الأخ المُسلم لحاجة فابذلُوا جُهدكم في إعانتِه؛ فإنَّ خيرَ الناسِ من يُعين المُسلمين وينفعهُم “.

وبيَّن أضرار عَدم التعاون موضحا أنه يُوجبُ الحجَاب بينَ العبْد وبين ربِّهِ، حيث قال: ” إنَّ التباغُض والتحاسُد وعدم التَّعاون بين النّاس مِن أهمِّ الأسباب التي تؤدي إلى وجُود جُجبٍ بَين العبد وبين ربِّه “. [ الضيافة الصّمدية، ص: (37)]

وقال أيضا:
ولا تَباغَضُوا ولا تَحاسَدُوا = وفِي الذي يُنمي الهُدى تعاضَدُوا
ولا تنازَعُوا فإنَّ الدُّنيا = طالبُها ليسَ يرُمُّ سعيًا

وقال في شَرح هَذين البيتين : التباغُضُ والتحاسُد وعدمُ التعاونِ والتعاضُد مما يُوجبُ الحجابَ بين الله تعالى وبين عبده، والمنازعة في أمر الدنيا مما يفسد عمل الآخرة، ومن أفسد في الدنيا أعمالَه النافعةَ فليس ينتفعُ في الآخرة أبدا والله الموفّقُ للصَّواب. [ المجمُوعة الكبرى، ص: 93- 94]

وقال في وصيتهِ “فتح المنان”: ” يا أيها المريد كلُّ من كان فوقك فأكرِمه وبَجِّلْهُ، وكلُّ مَن كان دونَكَ فارْحمْهُ والطُفْ به، وكلُّ من كان مثلَكَ فافعلْ له مثلَ ماتفعلُ لنفسِك “.

التَّحَاببُ وعَدم التَّنازعِ والعُدوانِ

قال الشيخ الخديم – رضي الله عنه – آمرا أصحابَه أن يَتحاببُوا فيما بينهم؛ لأنّه من أسباب التَّعاون كما قال:
عَلَيْكُمُ يَا مَعْشَرَ الْإِخْوَانِ = بِطَاعَةِ اللَّهِ بِلَا عُدْوَانِ
تَحَابَبُوا فِي اللَّهِ ذِي الْجَلَالِ = بِلَا تَنَازُعٍ وَلَا إِضْلَالِ
إِنَّ التَّحَابُبَ هُوَ الْإِيمَانُ = لِأَهْلِهِ السُّرُورُ وَالْأَمَانُ

وقال في وصيته لإخوانهِ:
اجْمَعْ صِغَارَكَ وَفَارِقُوا الْحَسَدْ = رُومُوا تَحَابُبًا بِقَلبٍ وَجَسَد

إنَّ التسامح من متطلبات الحياة كما يظهر ذلك في هذه الآية واضحة جلية حيث حثَّنا الله على التسامح والعفو، بل الإحسان إلى المسيء، قال تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ سُورة فصلت: 34].

من مظاهر التسامح

1- رحابة الصَّدر، وتقبّل المُخَالِف، والانفتاح على الغير

كان شيخنا الخديم – رضي الله عنه – يجسد ذلك في حياتهِ حيث قال في منظومته ” تزود الشبان”
فَلَا تُعَادُوا مَنْ رَأَيْتُمْ فَاهُ = يُخْرِجُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ

وكان أبو المحامد يأمُر المُريدينَ – بين آونةٍ وأخرى – بالتنهل من مناهل الأولياء الصَّالحين واستعمَال أحزابهم وأورادهم أينما وجدوها، كما قال:” وأما أحزابُ الأقطاب ودَعوات الصَّالحين فأذنتُ لكم جميعا فِي العملِ بكلِّ ما تيسر لكم منها حيث وجدتُموه” [ المجموعة، ص: 143 ]

وكما كان يكن لجميع الأمة المُحمدية محبَّةً صادقة منقطعة النظير – كما هو معلوم – في قلبه، ويأمر المُريدين بأن لا يضمروا أحدا ممن ينتمي إلى الإسلام بغضا أوحقدا، كما قال الشيخ الخديم – رضي الله عنه -:
كونُوا مُحبِّين الخُيورَ لجَميعْ = خَلق إلهِنا المُقدّم البديعْ

وقال في قصيدته المطرزة بـ” لا ريبَ فيه فقَد فاز”:
قلبِي يَنوِي الخَيرَ للخَلائقِ = لِوجهِ باقٍ كان لِي بِلاَئقِ

وقال:
المؤمنُون إخوةٌ والمُؤمناتْ = لِي أخوَات وحيَاتي حَسناتْ

وقال في قصيدته” جالبة السَّعادة”:
وَحبُّ كُلّ مُسلم ومسلمةْ = لوَجه باقٍ قد كفاني الظلمةْ

وقال في قَصيدة مطرزة بـ” وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً”:
لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ حِبَّ كُلَّ مَنْ = آمَنَ مُسْلِمًا يَطِبْ لَكَ الزَّمَنْ
لَا تَبْغِضِ الْمُؤْمِنَ وَانْصَحْ أَبَدَا = لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِحَقٍّ عَبَدَا
حِبَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ نَاوِيَا = خَيْرًا لَـهُمْ تَكُنْ لِخَيْرٍ حَاوِيَا

وقال في منظومته” الجوهر النَّفيس”:
وأحبِبِ المُؤمنَ للإيمانِ = وَلتُبغضِ الكَافر لِلكُفرانِ

وقال:
وَلَازِمُوا حُبَّ ذَوِي الْإِيمَانِ = وَبُغْضَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْأَزْمَانِ
المجموعة الكبرى، ص: (369)

2- العفو والصَّفح عن المسئ ونبذ العُنفِ

قال الشيخ الخديم – رضي الله عنه – في وصيته لابن عمّه أحمد بن سعيد بن أحمد حينَ أرادَ الارتحال:
واعفُ عَن الذي جنَى للحِلمِ = واجتهدَنَّ فِي التماسِ العِلمِ

وقال في قصيدتهِ “مطلب الفوزين”:
وَكلُّ مَنْ شَتَمَنِي أَوْ لَامَا = فَهَبْ لَهُ التَّوبةَ وَاسْتِسْلَامَا
فَكلُّ مَنْ أسَاءَ ظَنَّهُ بِيَا = فَلِيَ قَلِّبْ قَلْبَهُ يَا رَبِّيَا

وقال – رضي الله عنه -: “… لِيَعْلَمْ كُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا الرَّسْمِ أَنَّ كَاتِبَ هَذِهِ الْوَرَقَةِ عَفَا عَنْ كُلِّ مَنْ ظَلَمَهُ، وَأنَّهُ لَا يَدْعُو عَلى ظَالمٍ، وَأنّهُ يَسْتَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ تَعَلَّقَ بِهِ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا يُحِبُّ لِـَمنْ تَعَلَّقُوا بِهِ”. [المجموعة الصُّغرى] .

وكما قال الشيخ الخديم – رضي الله عنه – :”… وأوصيكَ بأن ترحمَ جميعَ الخَلقِ حتى العُصاةَ ، واعلَم بأنَّ الشفقةَ على العاصي أفضلُ من الدُّعاء عليه…”. [ يُنظر ” المجمُوعة الكبرى التي تشتَمل على أجوبة ووصايا الشيخ الخديم وفتاويه عليه رضوان الله الباقي القديم، جمع وترتيب: الشيخ محمد جانج المسؤول السَّابق عن قسم التصحيح في مكتبة ومطبعة الشيخ الخديم بطوبى المحروسة، ص: 167]

وكما كان أبو المَحامد – رضي الله عنه – ينهَى عَن التسابب والتكاذبب ويحثُّنا على الصَّبر عند السَّبِّ والاعراض عنه في منظومته ” نهج قَضاء الحَاج فيما من الأدبِ إليه المُريد يحتاجْ”:
[ الرجز] وَاصْبِر عَلى السَّبِّ ولا تُجبْ أحَدْ = وكُن كما قَال الأديبُ: (ولقَدْ)
إنَّ التَّسابُبَ مَع التَّكاذُبِ = مِنْ أقبَحِ الخِصالِ كالتَّضارُبِ

وقد عانى المريدون الأوائل مثل ما عانى به الصحابة من الفتن ونحوها كما قال صاحبُ إرواء النَّديم : “…… وقد ضُربوا وكتفوا وأخذ أموالهم وأخرجوا من ديارهم، كلّ ذلك فِي سبيل تبديدهم وتشتيت شملهم، فكأن فعل المُعاندين زيادة لهم في الرغبة والإقبال، سر إلهي سرى من باطن شيخهم إليهم .

فكان الشيخُ يثبتهم ويقوي بصائرهم بحمل هِممهم إلى هِمم أصحاب رسُول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول من هذا: ” قد لقي أصحابُ رسُول الله – صلى الله عليه وسلم – ما هو أشد إذ قتلوا في سَبيل الله وأهريق دماؤهم وسُلبوا أموالهم وأُخرجوا من ديارهم فلم يصدَّهم شيء من ذلك عَن مطلبهم حتى فازوا بمدح الله إياهم: { لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ سُورة الحشر: 8] أما علمتُم أن أولئك آباؤكم في الدِّين، فعلام هذا الجزع والموت في حقِّكم قليل ؟!! { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ } [ الأحزاب:21] فاصبروا وأحسنوا إلى من أساء إليكم { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 33- 34 ]، فاجعلُوا نصب عُيونكم { يَوم ندعُو كل أناس بإمامهم} [ الإسراء: 71 ] فإذا لا يسُوءكم رفضُ من رفضكُم . فكانوا يرتَوون إذا وردوا فُرات مواعظ الشيخ وينشطون ويصيحُون ويرقصُون ….”. [ ينظر: كتاب ” الإرواء المُحقّق ” ، مطبعة المعارف الجديدة، المحقّقون: مجموعة من الباحثين 2017م 1439ه‍ ، ص: (95 – 96)].

بمرقَم الأخ الحقير سَرين امباكي جوب خضر الطوباوي خريج معهد الدروس الإسلامية ومدرس اللغة العربية فِي معهد الخليل الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock