الدين و الترييةالسياسةالعمل والمستجدات

تأملات ذاتية مع كتاب الله .عبد الرحمن بشير

تأملات ذاتية مع كتاب الله .عبد الرحمن بشير
…………………………. …………………………………………
فى كتاب الله آية تتحدث عن أهم شيئ فى الحياة ، وهو ( الميزان ) ، وجاءت فى سياق عجيب ، والسياق الذى أتت فيه الآية ينبئ بأن هناك علاقة عضوية ما بين الميزان ، والوحي ، ومن هنا ، أردت أن أبين هذه العلاقة العضوية ما بين الوحي كرسالة ربانية ، والميزان كحالة بشرية ، فالناس فى خلقتهم وبنائهم الجسدي لديهم ميزان دقيق ( لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ) ، وفى داخل الإنسان تسوية دقيقة ، وميزان دقيق ( ونفس وما سوّاها ) ، فالبنية الظاهرة موزونة ، والبنية الداخلية موزونة ، فالأولى موصوفة فى كتاب الله ( أحسن تقويم ) والثانية موصوفة فى الوحي ( ونفس وما سوّاها ) .

الآية الكريمة من سورة الرحمن وهي ( والسماء رفعها ووضع الميزان ) ، فالآية تحمل رقم ( ٧ ) من السورة ، وقبلها آيات ستة ، وبعدها حديث عن كيف نتعامل مع الميزان ، ولكن السؤال هنا ، ما علاقة هذه الآية بما قبلها ، وما بعدها ؟
فالآيات التى وردت قبل الآية تحدثت عن ثلاثة أمور ، عن كتاب الله تبارك وتعالى ( الرحمن . علّم القرآن ) ، والثانية تحدثت عن الإنسان وخصائصه كمخلوق متفرد ( خلق الإنسان . علّمه البيان ) أما الثالثة فتناولت عن الكون وطبيعته كمخلوق ذو وظيفة ، وليس ككائن مادي ، ليس لديه وظيفة كونية ( الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان ) .

نفهم من خلال هذا السرد الرباني قضية محورية ، وهي أن الكون مخلوق ، وكذلك الإنسان ، ولكن للكون وظيفة ، وللإنسان وظيفة ، فوظيفة الكون العبادة ( يسجدان ) ، ووظيفة الإنسان ، فهم هذا الكون ، وتسخيره لمصلحته ، وهذا يكمن فى منح الإنسان دورا أساسيًا فى قيادة الكون ( علّمه البيان ) ، والبيان ليس مرتبطا باللسان فقط ، بل فهم الألغاز ، وشرح الطبيعة ، والغوص فى خبايا الكون ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) ، فالإنسان يعبد الله من خلال العلم ، وليس من خلال الجهل ، والعلم هنا نوعان ، علم مرتبط بعلوم الوحي ( علّم القرآن ) ، وعلم مرتبط بعلوم الكون ( علّمه البيان ) ، وبين هذين العلم ( الإنسان ) فالإنسان هو السر الإلهي للحياة ، فهو يفهم الوحي ، ويفهم الكون ، ثم يعالج بهما حياته ، وهذا يتطلب إلى فهم أمر ثالث ، فماذا يكون هذا الأمر الثالث ؟

قبل أن نتحدث عن الآيات التى وردت بعد الآية الكريمة ( والسماء رفعها ووضع الميزان ) ، نأتى إلى أمر هام ، وهو لماذا تم طرح هذه الآية الكريمة فى هذا الموقع ؟ لماذا الحديث عن الميزان ؟
لدينا مشكلة إنسانية عميقة جدا فى حياة البشر وتكمن تلك المشكلة فى تناول الأمور بسطحية متناهية ، فاليوم نجد بعض الدراسات الغربية التى تتحدث عن الإنسان كظاهرة طبيعية ، أو كأنه جزء من الطبيعة ، أو كأنه عرض ليس له جوهر ، ولهذا نجد اليوم فى الدراسات الغربية تسطيح الإنسان ، ونسيان دوره الروحي ، أو الرباني ، ومن يصير هذا الكائن العجيب ( سلعة ) أو ( لحظة ) فيكون شيئا من الأشياء ، أو لحظة من اللحظات ، ولهذا يتحدثون عن الإنسان ( السوبرمان ) والإنسان ( العاجز ) ، ولدينا دراسات دينية تتحدث عن الإنسان الروحي ، وتنسى ذلك الإنسان المعقد ، والذى يبحث ذاته فى السوق ، وفى عالم الصراعات السياسية ، ومن هنا تحاول بعض الدراسات الدينية تسطيح الإنسان كذلك ، والسبب هو اختلال الميزان ، ومن هنا جاءت الآية ( ووضع الميزان ) .

هناك من يتحدث عن خلق الكون بشكل غير علمي ، ولدينا نصوص محرفة ، وأخرى خرافية تتحدث عن نشأة الكون ، وهناك من يتحدث عن كون ( إله ) خلق ذاته بذاته ، وأوجد نفسه بغير موجد ، واخترع ذاته بغير مخترِع ، وكل ذلك ينبئ عن اختلال فى الميزان ، ومن اختلالات الميزان ، الحديث عن نشأة كونية ذاتية كما يقول بعض الفيزيائيون ، أو عن نشأة كونية خرافية ، أو محرفة كما يقول بعض علماء الأديان الذين يتحدثون عن كون نشأ قبل عشرات الآلاف من السنين ، بينما يتحدث العلم عن نشأة كونية عمرها ملايين السنوي الضوئية ، ومن هنا نعرف أن ذلك أيضا من اختلالات الميزان .

قال سبحانه وتعالى : ( والسماء رفعها ، ووضع الميزان ) ، فالميزان ظاهر فى الكون ، وهو كذلك ظاهر فى الإنسان ، ونجد هذا الميزان ظاهرا فى الوحي ، ولهذا نفهم ، وبشكل واضح أن خالق الكون هو منزل الوحي ، وهو كذلك خالق الإنسان ، فلا نهضة متوازنة بدون هذا الفهم المتوازن ، وبدون هذه القراءة المتوازنة .

كيف يمكن أن نتعامل مع الوحي ؟ ومع الإنسان ؟ ومع الطبيعة ؟ ومع جميع مفردات الحياة ؟ هنا تأتى الآيات التى ترد بعد قوله تعالى ( والسماء رفعها ، ووضع الميزان ) ، تقول الآية الثامنة من سورة الرحمن ( أن لا تطغوا فى الميزان ) والطغيان هو تجاوز الحد ، ومن تجاوز الحد ، أن يتضخّم الإنسان ، ويأخذ دور ( الإله ) فى الحياة ، ويرى أنه هو الذي يستطيع أن يتحكم الكون بإرادته المنفردة ، وبعيدا عن أوامر الله ووحيه ، فيصبح الآمر الناهي ، وبهذا يدخل تحت قوله تعالى ( إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى ) ، ومن هنا يبدأ الإنسان مرحلة التراجع كما وقعت له فى الأزمنة الساحقة من التاريخ ، وهذه السنة الربانية تنتظره فى كل زمان ومكان ( إن ربك لبالمرصاد ) .

فى الآية التاسعة أمر آخر ( ولا تخسروا الميزان ) ، والإخسار هو ضد الطغيان ، ومن الإخسار رفض الدور الأساسي والرئيسي للإنسان فى الحياة ، وهذا الدور بحاجة إلى تأسيس وتفعيل ، ويكمن الدور فى الاستخلاف والاستعمار والعبادة كما تحدثت الآيات القرآنية من البقرة وهود والذاريات ، فهذه الأدوار تتكامل وتتناسب وتتسق ، ولكن بميزان ، فالإنسان ليس إلها فى المفهوم الإسلامي ، ولكنه كذلك ليس بسيطا ، بل هو كائن غريب ومتفرد ، ولديه امكانيات هائلة ، فلا ينبغى أن ينسى دوره حتى لا يخسر ، ولا ينبغى أن يتضخم حتى يتألّه فى الكون فيطغى .

فى الآية التاسعة كذلك أمر آخر ( وأقيموا الوزن بالقسط ) والقسط هنا بالعدل ، والعدل يعنى إعطاء كل ذى حق حقه ، فالله أحق أن يعرف ويعبد ، والكون يستحق من البشر الفهم والإستفادة من أسراره ، ، والإنسان يحتاج إلى معرفة روحية وعقلية وفكرية وعلمية ، وبهذا تتوازن الأمور وتعتدل ، وتستمر الحياة على ميزان دقيق .

ماذا بعد ؟
نحن اليوم نحتاج فى هذا الظرف العصيب درسا مهما ، وهو فهم كتاب الله ، وبالتالي فهم الميزان ، وفقه الميزان صعب للغاية ، ولهذا كان الميزان دوما مع الوحي ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ) ، والعلة فى ذلك ( ليقوم الناس بالقسط ) والمسلمون اليوم تخلفوا عن الركب الحضاري لسببين ، وهم عدم فهمهم للوحي فهما صحيحا ، وعدم تعاملهم مع مفردات الكون والحياة بالميزان .
ربما ، فهمنا طرفا من القصة ، وشيئا من الوحي ، والفهم هو السر لتخلفنا ، بل هو الأساس ، وليس سهلا أن يعنون الإمام البخاري رحمه الله ( كتاب العلم قبل القول والعمل ) فاللهم مقدم على العمل ، والعمل بدون فهم تخبط ، وفهم لا ينتج عملا فلسفة باردة ، ورحم الله الاستاذ البنا الذى جعل الفهم قبل الإخلاص والعمل ، ومن قبله كتب العلامة ابن القيم قدس الله سره ( اعلام الموقعين عن رب العالمين ) ، ومن قبل هؤلاء فهم السيد الرباني عبد القادر الكيلاني رحمة الله تغشاه أبد الآبدين أن الإنسان ظاهرة مركبة ، وعميقة ، وهو سرّ الله فى الحياة .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock