الدين و الترييةالسياسةالعمل والمستجدات

مهمة خطيرة فى قصر مهم .عبد الرحمن بشير

مهمة خطيرة فى قصر مهم .عبد الرحمن بشير
…………………………………………. ………………………………………
فى ليلة شتوية باردة ، وفى قرية نائية من ( ديسي ) من إقليم أمهرا فى إثيوبيا ، ولد طفل موهوب ، وترعرع فى كنف والده الشيخ ، وتعلم الدين ومبادئ الإسلام ، ثم التحق بالمدارس الحكومية فى الإقليم الذى ترعرع فيه من اثيوبيا ، وحينها عُرف موهبته وتميزه ، والتحق بالجيش بيد أنه عمل فى الأمن العسكري ، إنه شاب نشط وذكي ومتعلم ، ولديه قدرات غير عادية فى التعامل مع الظروف المختلفة ، ومع البشر مهما كانوا ، فهو موهوب ، ومثل هؤلاء لديهم مكانة مهمة فى الأمن ، وخاصة فى الأمن العسكري .

أخذ دورات أمنية متقدمة ، ودورات سياسية مهمة ، وأخرى فى مجال العلاقات العامة ، ودرس اللغة العفرية ، وفهمها بشكل جيد ، كما أتقن نوعا ما اللغة الصومالية ، ولديه فهم جيد للغة الأمهرية ، وهي اللغة الرسمية فى اثيوبيا ، ويتقن اللغة الأورومية ، ويحاول فهم اللغة الفرنسية ، ولديه إحاطة جيدة باللغة الإنجليزية ، ولكنه أعطي أوامر صارمة بأن يجعل نفسه أميا ، لا يحسن اللغات إلا قليلا ، فهو يتكلم الصومالية بصعوبة ، أو هكذا يبدو أمام الناس على الأقل ليزيد الثقة به ، وبأميته المصطنعة ، أما العفرية فلا يتقنها ، وهكذا يظهر نفسه أمام الناس ، وبهذا الشكل المميز تعامل الجميع بذكاء استثنائي .

جاء الرجل إلى جيبوتى العاصمة وهو مهيأ لهذه المهمة الخطيرة ، فجيبوتى الدولة مهمة لإثيوبيا ، ذلك لأنها البوابة الأهم فى تجارتها وحياتها ، بل ومستقبلها الوجودي ، ولهذا يجب أن تكون العين الحقيقية للدولة مفتوحة على جيبوتي بشكل مكثف ، فتحرك الشاب نحو العاصمة ( جيبوتي ) فى وقت مبكر من حياته ، وعمل فى مجالات مختلفة حتى سمع أهم رجل فى الأمن فى الدولة ذاك الشاب المتميز ، وأحبت زوجته أخلاق الشاب ، ومرونته ، فاختارت أن يكون خادمها المميز ، وعاملها الأول فى القصر ، وهناك موضة جيبوتية لتوظيف الخدمات الرئيسية فى القصور ، والبيوت المهمة للإثيوبيين ، وحينها تواصل ذاك الشاب دولته ، وتبادل معها المعلومات ، فقالوا له : إنك اليوم لديهم مكين أمين ، فالرجل الأمني خطير ولكنه ليس من النوع الذى يحفظ أمن الوطن ، وإنما يهمه أمنه الخاص ، وسمعته ، وجبروته ، فهذا يجب أن يكون معلوما لديك لحسن التعامل معه ، ولديه طموح غير عادي للحكم ، ولكن هناك تحديات وصعوبات غير عادية فى طريقه .

أعدت المخابرات خريطة عمل للشاب ، منها ما هو متعلق بسلوكه تجاه الرجل ، وتجاه السيدة القوية فى القصر ، وسلوك ثالث تجاه الأولاد ، والأقارب ، وأصدقاء الرجل ، ومن هنا بدأ الشاب عمله فى القصر الخطير ، القصر الذى تجتمع فيه المعلومات من جيبوتى كلها ، من شرق البلاد إلى غربها ، ومن جنوب الوطن إلى شماله ، ذاك القصر الذى يجمع الأخبار من كل مكان ، ويحرص وراء كل حركة وسكنة ، يا له من محظوظ ، ويا لها من مهمة خطيرة فى زمن خطير ، وأتقن الشاب التعامل مع الجميع بذكاء وحذر مما منحه الثقة شبه المطلقة من الرجل وزوجته وأولاده ، وهذا زاده تمكينا وقوة .

إن الشاب الإثيوبي نجح فى اختراق الجدار ، وكان بعد أيام قلائل من القلائل الذين لديهم الصلاحية فى دخول غرف النوم الخاصة للرجل ، بل كان هو الرجل المؤتمن فى إعداد مجلس الرجل الخاص بالقات ، وكذلك ما يتعلق من الأمور الخاصة بأجواء المجلس ، ووصل فى المراحل الأخيرة أنه كان السكرتير الخاص بالرجل حيث كان هو الذى يحدد من يتواصل معه من خلال التلفون ، ومن يُمنع منه ، إنه ذهب إلى مكان بعيد .

الزمن خطير ، هناك صراع للسلطة بين الأقوياء ، وهناك وزراء محظوظون ، ومهمون لفرنسا ، وآخرون ، ولكن دور فرنسا كان استثنائيا فى هذه المرحلة ، بل هي الأقوى فى تحديد المستقبل السياسي فى هذا البلد الصغير والمهم ، الفقير والاستراتيجي فى آن واحد ، والصراع السياسي قوي بشكل غير عادي ، فهو من النوع الموصوف ( بالصفري ) ، فلا مكان للتنازلات ، ولا موقع للتراجع ، الكل مستعد ليكون الأول فى الدولة ، ولكن من خلال التخطيط السياسي والإستراتيجي بدأت إثيوبيا تنافس فرنسا فى هذا الميدان .

بدأت اثيوبيا تراقب ما يجرى فى جيبوتي عن كثب ، وهي فى هذه اللحظة تعيش فى مرحلة ( بينية ) كما يقول المذهب المعتزلي ، فلا هي مستقرة استقرارا كاملا ، ولا هي مهددة بالزوال كما كان الأمر مع الصومال ، فقد جاء إلى الحكم رجل خطير اسمه ( ملس زيناوي ) لديه خبرة عسكرية ، وأمنية ، وعنده معلومات دقيقة من الشعب الصومالي ، لأنه عاش فى مقديشو طويلا ، وفهم العقدة الصومالية ( القبيلة ) ، ولديه كذلك خبرة جيدة ، وفهم لا بأس به عن القومية العفرية بحكم الجوار الجغرافي ، ومع هذا ، فهو بحاجة إلى فهم أكثر دقة فى الخيوط فى السياسة الجيبوتية ، ومن حسن حظه أن الحكومة السابقة عملت فى زرع ( عميل ) خطير فى أهم القصور فى جيبوتى ، ومن هنا ، تم تعيين امرأة حديدية فى زمن ملس زيناوي فى السفارة الاثيوبية فى جيبوتى وهي السيدة ( سهلورق زودي ) فى عام 1993م ، وهي سيدة مخضرمة درست فى فرنسا ، ولديها خبرة كبيرة فى التعامل مع الملفات الساخنة ، وعملت كسفيرة فى دول كبيرة كفرنسا ، وأخرى فى أفريقيا كالسنغال ، وعملت فى الأمم المتحدة ، واليوم تتولى رئاسة الدولة ، ورئاسة الدولة فى الدستور الاثيوبي شرفي ، ولكنها مهمة جدا فى التراتيب الإدرارية ، فهذه السيدة الحديدية صارت ممثلة الدولة فى هذه المرحلة المهمة ، مرحلة معرفة من سيقود سفينة جيبوتى بعد الرجل المسن ( الحاج حسن چوليد أبتدون ) ، ومن هنا ، وجد النظام الإثيوبي شخصين مهمين ، السفيرة التى تتقن الفرنسية كأهلها ، وكذلك الإنجليزية ، وهذا العميل المزروع فى أخطر وأهم قصر فى الدولة فى زمن ما بعد الحروب الأهلية ، وما قبل تولى ( چيلة ) للحكم .

فى هذه المرحلة راقب الشاب الخطير الصراع الصفري ما بين الأجنحة المتحاربة فى السلطة ، كان هناك الرجل الخطير ، السيد محمد جامع عيلابي ، والقريب من الجناح الفرنكفوني ، ومن فرنسا كذلك ، ومؤسس حزب ( تجديد الديمقراطية ) ، وهو الأب الروحي للسياسي المخضرم طاهر أحمد فارح ( طاف ) ، والسيد اسماعيل چيدي حريد ، رئيس مكتب الرئاسة ، والقريب كذلك من فرنسا ، ولكنه كذلك قريب من الفكر التقليدي ، وهناك السيد مؤمن بهدون فارح ، وزير الخارجية ، والعدل ، ومهندس العلاقات الخارجية بعد الاستقلال ، وكان يعتبر من رجال السعودية فى الحكم ، والسيد آدم روبله عواله ،المعارض ، ومن المناضلين للاستقلال ، ومؤسس حزب الوطني الديمقراطي ، ولديه ميل للإشتراكية كمذهب سياسي ، كل هؤلاء كانوا فى صراع شبه صفري مع رجل الأمن الأول ، السيد عمر چيلة ، والسيد چيلة لديه ملف قوي ، وهو ملف الأمن ، ومن خلاله كان يتعامل مع الجميع ، وفى قصره الكائن أمام ساحة ( أحمد عوليد ) حيث كانت الأخبار الطازجة تمتحن ، وتختبر ، وتتم تصفيتها بشكل يومي ، ومن هناك كان المطبخ الذى يقرّر فيها الأخبار الحقيقية ، والمزيفة ، وتنطلق كل تلك الأخبار نحو الجمهور المتعطش للأخبار فى لحظة خطيرة ومأزومة من حياتهم ، وتشبه إلى حد بعيد مثل هذه اللحظة ، ولكن العجيب أن تلك الأخبار والمعلومات كانت تصل إلى السفارة الاثيوبية طازجة ، ويتم هضمها فى الغرف المظلمة ، لأنها تصل إليها من خلال العميل المزروع ساعة فساعة ، ومن هنا بدأت إثيوبيا تنافس فرنسا فى حصول المعلومات ، والاستفادة منها ، ولا يمكن نسيان قربه من الرئيس السابق من حيث شجرة الأنساب ، فهو أقرب السياسيين إلى الرئيس المسن .

قررت اثيوبيا ، وبشكل أساسي أن يكون ( جيلة ) رئيسا للدولة ، ولهذا جاء إلى جيبوتى مسرعا بعد عودة الرئيس السابق چوليد من رحلة استشفاء فى فرنسا حيث تلقى العلاج قريبا من خمسة أشهر ، والتقى به فى مدينة ( عرتا ) ، وأخبر بأن اثيوبيا لا تتحمل عدم الاستقرار من وطن آخر فى القرن الأفريقي ، وهذا يعنى بأن ( چيلة ) الرجل القوي فى الأمن لن يقبل إلا أن يكون رئيسا ، حينها عرف الرئيس چوليد أن الانقلاب الأبيض قد تم مسلسله ، ومن هنا أعلن الرئيس چوليد من مدينة دخل بأن خليفته هو السيد چيلة ، ولكنه أضاف شيئا واحدا فى خطابه حيث قال : إن الرجل لديه أصدقاء فى المنطقة ، ولهذا قررت أن يكون خليفته فى الحكم ، ويقال ، إنه أقنع الرئيس الفرنسي جاك شيراك ، والذى كان صديقا خاصا للرئيس حسن چوليد أبتدون .

أسئلة مهمة ، ماذا كان يصنع العميل المزروع ( عبدو ) فى القصر ؟ ولماذا تم التخلص منه بعد سنوات من رئاسة چيلة ؟ ولماذا تم التخلص منه بعد منحه للجنسية الجيبوتية بعد عامين ؟ ولماذا لم تمنح له الجنسية قبل أن يكون چيلة رئيسا للجمهورية ؟ وماذا يعمل السيد عبدو الآن فى جيبوتى واثيوبيا ؟ ولماذا ارتفع شأن السفيرة الإثيوبية فى جيبوتى ؟ ربما ، لا يعرف كثير من الناس أن الخارجية الإثيوبية لا تتأثر بالصراع الداخلي ، وربما ، لا يعرف كثير من الناس أن تلك السيدة الحديدية عملت أكثر من تسع سنوات فى جيبوتى ، وهي اللحظة المأزومة فى الصراع السياسي الداخلي ، وهي كذلك مدة طويلة .

هل من الممكن أن نفهم الآن الظروف السياسية لمؤتمر عرتا ؟ وهل من الممكن فهم الأصابع الخفية لإثيوبيا من خلال چيلة ؟ ولماذا كان من مقررات ذلك المؤتمر ( 4,5 ) حيث تم توزيع المناصب السياسية من خلال المحاصصة القبلية ، وخاصة بهذا الشكل الظالم .( الهندسة الزيناوية) .
هل من الممكن أن ندرس السياق السياسي والتاريخي والأمني للمؤتمر من جانب ، وما تمخض منه من جانب آخر ؟

هناك فيلم مهم أنتجته مصر فى زمن العمالقة اسمه ( مهمة فى تل ابيب ) ، وقد مثل الفيلم عمالقة السينما المصرية أمثال نادية الجندي ، وكمال الشناوي ، ومحمد مختار وغيرهم من النجوم ، فكانت المهمة خطيرة ، وحقيقية ، ومن خلال وحي الفيلم أخذت العنوان ( مهمة فى قصر مهم ) ، وأضفت إلى العنوان ( مهمة خطيرة ) ، وخطورة المهمة أنها حددت شيئا من الواقع السياسي الحالي ، ومن خلال هذه المهمة ، ومن خلال هذا العميل المزروع ، ومن خلال عمل سياسي متراكم من إثيوبيا فى ذلك الزمن تحدد مستقبل البلد المهم استراتيجيا ، والفقير اقتصاديا ، ولكننى أتساءل اليوم ، كيف يتحدد المستقبل السياسي اليوم ؟ من هو العميل المزروع ؟ وأين يكون موقع العميل ؟ ولأي دولة يكون هذا العميل ؟ أسئلة أخرى ومهمة وخطيرة ، ومع هذا فالوطن فى انكشاف استراتيجي غير عادي ، والغريب أن الجميع فى حالة استرخاء سياسي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock