الدين و الترييةالسياسةالعمل والمستجدات

لو كنت إنسانا عاديا ! عبد الرحمن بشير

فى الزمن الماضى ، قال عنى بعض أصدقائي ما لم يقل مالك عن الخمر ، ومع هذا ما زلت كما كنت ، ذلك لأننى أرفض أن أكون إنسانا عاديا .

فى الزمن الماضى ، كنت أفكر فى اللامفكَر فيه ، وكنت بسبب هذا أخلق للناس القلق ، ولا أحسن السباحة مع الناس إلا قليلا ، ولكنى أحاول أن أسبح ضد التيار ، فأنا مخلوق اصنع للناس القلق .

فى الزمن الماضى ، قرأت فى بلدى للترابي كثيرا وكان العلماء يحذرون منه ، وفهمت من خلال قراءتى أنه وحيد زمانه ، ولهذا فهو منبوذ عند بعض المفكرين والدعاة عندنا ، فقالوا لى : لا تقرا لهذا المفكر ، لأنه فريد ووحيد وشاذ ، فلم أستمع إلى تلك النصائح المجانية ، لأنها أرادت أن أكون مثل الآخرين .

فى الزمان الماضى ، قلت : إن الحجاب الشرعي هو اللباس العادي للمرأة فى بلدنا مع زيادة الحشمة عليه ، وأن الستر هو المطلوب ، وليس اللباس الشرعي هو ما نلاحظه من لباس فى الخليج ، أو فى شبه القارة الهندية ، فالسيدة الجيبوتية ، أوالصومالية ، أوالهررية ، أوالعفرية ، أوالأورومية تلبس زيها التقليدي مع الستر الديني ، ولكن الناس من حولى صنعوا الضجيج ، لأنهم لاحظوا الزِّي الخليجي ، وحسبوه دينا .

فى الزمن الماضى ، قلت : التنظيم وسيلة ، وليس دينا ، ولكنه مهم لصناعة التغيير ، والوسيلة لها أحكام المقاصد ، ومع هذا فالتنظيم ليس ثابتا ، بل هو متحرك ، ويجب أن يكون نابعا من المجتمع ، ومع ذاك ، قالوا للناس : إن الرحل خطير ، فكونوا منه على حذر ، وفكر البعض فى التجميد علي تنظيميا كأسلوب عقابي ، وحذروا من الناس الإستماع إلي ، ولكن الناس مالوا إلي كثيرا فعرفوا أن الحظر والتجميد ليس أسلوبا ناجحا معى .

فى الزمن الماضى ، قلت : فى الحركة خرافات ، وفى الدعوة بساطة فقهية ، وفى الصفوف رجال فقط ، ولكن أين المرأة ؟ فقالوا عنى ، يحمل أفكارا غير إسلامية ، والقوم لا يقرؤون الوحي إلا من خلال الكنيسة ، أين أنتم من قوله تعالى ( إن المسلمين والمسلمات إلخ ) ؟ ومع هذا قبلوا الفكرة بعد عقدين من الزمان ، لأنها جاءت إليهم من الخارج ، ومن القرآن فهمت أن المرأة كالرجل فى الدعوة والتكليف ، والأصل فى الخطاب الرباني العموم ، وليس الخصوص ، ورفضت ما يسمى بفقه النساء ، وتساءلت بحرقة هل للنساء فقه ، وللرجال فقه ؟ أم الفقه للحياة ؟

فى الزمن الماضى ، فكرت فى المقلوب ، وما زلت ، وهل التفكير فى المقلوب هو الخطأ ؟ من قال ذلك ؟ بدأت أذهب إلى التلفزيون الجيبوتي لشرح الدين بأسلوب جديد ، وظهرت هناك ، فقال بعض أصدقائي ، هذا هو بدايةالسقوط ، وحين لاحظوا نجاح المشروع ، قالوا : لقد نجح مشروع الشيخ ، لأنه يحمل فكرنا ، ولو فشلت لتبرؤوا عنى ، وتلك عادة الناس ولكنى كنت ، وما زالت مختلفا ، فالتفكير العادي ليس من سماتى .

فى الزمن الماضى ، رأيت خطاب المسجد ميتا ، فهو خطاب يؤخذ من الكتاب ، ثم يفرغ ما كتب فى عقول الناس ، وتنتهى القصة هنا ، وما زال المسجد هكذا ، ولكنى حين أصبحت خطيبا فى جامع حمودى الكبير فى العاصمة ، غيرت الأسلوب والخطاب ، فلاحظ الناس هذا ، وجاءوا من كل فج عميق ، ومع هذا ، تكلم من ورائي من لا يحسن إلا الكلام ، فمضيت فى طريقى لا ألتفت إلا قليلا ، فإنى لم أُخلق للتكرار .

فى الزمن الماضى ، قالوا لى : الدولة ليست لنا ، والمجتمع غريب عنا ، والمسجد لغيرنا ، والإعلام للعدو ، وسألتهم نحن إلى أين ؟ لا جواب ، حينها عرفت أن القوم فى تيه ، فانطلقت نحو الحياة ، ثم رأيت الناس من حولى يتكاثرون ، لأنهم كان ا ينتظرون لحظة الفتح ، والحمد لله ، واليوم ، ذهب البعض إلى الميادين التى تموت فيها المبادئ ، ذلك لأن العمل بدون تفكير كالعبادة بدون نية .

فى الزمن الماضى ، تزوجت على السنة ، ولكن مع الحب ، فتكلم من وراءى الكثير ، لماذا تزوج فلانة ؟ ولماذا لم يتزوج فلانة ، أو فلانة ؟ إن هذا النوع من التدخل فى الحياة الخاصة كانت كارثة حياتية قبل أن تكون إشكالية دعوية ، ولكنى ذهبت إلى هدفى ، فصارت تلك الزوجة البرئية من نصيبى ، والغريب أن البعض من هؤلاء لا يفقهون أن التفكير المقلوب فى بعض الأحيان يمنحك بصيرة فى فهم نفسيات الناس .

فى الزمن الماضى ، قرأت للغنوشي ، وتأثرت ببعض أفكاره ، وخاصة فيما يتعلق بالمرأة ، وكان كتابه ( المرأة بين القرآن والمجتمع التونسي ) موجودا عندى على الدوام ، وقرأت على بعض النساء فى صفوف الدعوة قبل أن يتحول الكتاب إلى ( المرأة بين القرآن والمجتمع ) ، فقرأت كله ، وتدارست مع بعضهن فى فقراته ، بل وأصبح الكتاب محفوظا لدي بأفكاره ، وما زال ، ولكن جمهور الدعاة من حولى رفضوا الكتاب ، واليوم ، لا توجد مكتبة عندهم إلا وفيه . إنها مفارقة الزمن مع العيش فى الزمن الواحد .

فى الزمن الماضى ، عشت مع أفكار الغزالي ، وقرأت جل كتبه ، بل وحفظت بعض مقولاته عن ظهر القلب ، فأعجبني أسلوب الشيخ ، بل ورأيت فيه نسخة من ذاتى ، فالشيخ ثائر ، وفى ذاتى ميل نحو الثورة ، لا أحب السكون ، بل أكره العيش فى النمط الواحد .
سمعت من الناس أن الغزالي عقلاني ، ويجب الحذر منه ، فازداد حبى له ، ذلك لأن من لا عقل له لا دين له ، فالعقل شرف ، وليس نقصا ، وسمعت من آخرين ، أن الشيخ قرآني ، وازددت حبا له ، لأنى رأيته كذلك ، فهو ينطلق من الوحي فى فهمه للحياة ، ولكنه ليس تاركا للسنة ، وإنما يدعو إلى فهم السنة قبل تطبيقها .

فى الزمن الماضى ، كنت إنسانا ، ولكنى لم أكن عاديا ، وفى هذا الزمن ما زلت إنسانا ، ولكنى لست نسخة من أحد ، فالناس هنا يبحثون عن المراكز ، وأنا أبحث عن الفكر ، ويتكلم الناس هنا عن الناس ، وأنا يعجبنى من يتكلم فى أفكار الناس ، فلا فائدة لحياة خلت من الأفكار ، ولهذا ما زلت غريبا ، ولكنى أحاول فى بعض الأحيان إخفاء غربتى مسايرة لأن المسايرة سياسة شرعية .

فى الزمن الماضى ، كنت كذلك ، لم أكن نسخة مكررة ، وفى الزمن الحاضر ما زلت كما كنت ، أنا ما زلت أنا فى المكان والزمان ، أحاول أن أتطوّر ، ولكن لا أفقد ذاتى ، وأحاول أن أكون فى بعض الأحيان بعيدا عن المكان والزمان ، ذلك لأننى لا أحب أن أكون مسجونا فى المكان والزمان ، فالقيد المكاني والزماني مشكلة ، ولكنهما حين الفتوى يجب ملاحظتهما ، ويحب ملاحظة التطور حين تقرأ النصوص لأجل التوقع ، وأحاول أن أخرج من قيدهما إن وجدت إلى ذلك سبيلا .

إن المشكلةفى الزمن ، وليست فى المكان ، فقد يكون الفتح مكانيا ، ولكن الزمن لا ينفتح ، ولهذا يجب على الناس أن ينظروا إلى الناس من خلال التفكير المقلوب ، فإن لم تستطع فاصبر على الناس ، لعل الزمن الآتى يحمل لهم بعض التفسير .

أحببت ابن تيمية ، وحبى له ليس ناتجا عن عقله الموسوعي ، وليس كذلك ناتجا عن منهجيته فى البحث فقط ، ولكنه كان مختلفا ، فكان رائعا ومُبدعا ، وأحببت الغزالي ، وحبى له ليس ناتجا عن عبقريته الففقهية والفلسفية والصوفية فحسب ، بل كان مختلفا عن أقرانه ، وأحببت هدراوى الشاعر ، وحبى له ليس ناتجا عن جزالة كلماته ، وقوة شعره ، فهناك من ينافسه ، ويسبق عليه فى الثروة اللغوية ، ولكنى أحببت ذلك الرجل ، لأنه ظاهرة مختلفة ، وأحببت ( كاريي ) الظاهرة الشعرية المتحركة فكرة وجسدا ، وحبى له ليس ناتجا عن قوة أفكاره الشعرية ، وإنما نتجت عن شخصيته المثيرة ، فهو لا يمثل إلا نفسه .

لو أردت أن تكون شيئا فى الوجود ، لا تكن شيئا عاديا ، كن مختلفا ، امنح الحياة شيئا ، حينها تجد ذاتك فى الوجود ، ولكن لو أردت أن تكون نسخة من غيرك ، كن مصدرا ، ولا تكن إضافة فى الحياة .

إن الحياة منذ البداية لم تكن تمضى بشكل عادي ، بل كانت تحمل فى طياتها المفاجآت ، ولكن أغلب الناس يعيشون فيها بشكل عادي ، ولهذا تجد المبدعين فى المجالات قلة ، لأنهم عرفوا آن الحياة لا تمضى بشكل عادي ، فتعاملوا معها من زوايا غير عادية ، فأبدعوا وأضافوا ، وليس من الإبداع أن تجمع فى العقل كل ما قيل من العلوم والمسائل ، ولكن الإبداع هو فهم منهجيات من أبدع وأضاف ، فكن أنت من هؤلاء ، ولا تكن نسخة مكررة منهم ، لأنك لست منهم ، بل أنت متفرد ، ولا إبداع ما لم تكن متفردا .

لو كنت إنسانا عاديا لبقيت فى وطنى موظفا عاديا ، ولجلست فى بيتى بلا مشاكل ، ولكانت علاقتى مع الناس رتيبة بلا تجديد ، ولو كنت كذلك ، لعشت بلا عطاء ، وقلت ما يريده الناس ، لا ما توصلت إليه .

لو كنت إنسانا عاديا ، لبحثت فى الأفكار المسائل العادية ، ولنقلت من الكتب ما قيل فقط ، ولكن الله خلق التمرد فى شخصيتى ، ولهذا لا أقتنع بسهولة ، ولا أقبل الكلام بسرعة ، ليس مهما عندى ما يقول الشخص ، ولكن المهم عندى منهجية الشخص ، بل ليس عندى مهما أهمية القائل لأننى لست مراهقا فكريا ، المهم عندى هو ما يقول من معرفة جديدة ومهمة .

أكره الكلمة ( هذا أمر عادي ) وأحب ( الإبداع ) حتى فى الخطاب والأسلوب ، كن مبدعا فى التفكير ، ومبدعا فى الخطاب ، ومبدعا فى الإتصال ، فلا تكن شخصا عاديا ، فالحياة ليست بحاجة إلى أناس عاديين ، وشكرا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock