السياسةالعمل والمستجدات

حسابات بوتين بين العنترية والحقيقة . عبد الرحمن بشير

يبحث الغرب عن شخصية بوتين ، هل لديه مغامرات غير عادية ؟ أم هو شخص لديه حسابات دقيقة ؟ من أين يستمد أفكاره ؟ هل هي من التاريخ ؟ أم لديه طموح سياسي لصناعة امبراطورية روسية ؟ وهل لديه إمكانيات فى صناعات تلك الامبراطورية التى يحلم بها ، أم لديه طموح سياسي أكبر من إمكانيات الدولة بشريا وماديا ؟ هل تقدم فى غزوه على أوكرانيا اللحظة المناسبة ؟ أم اللحظة تاريخية ، ولو تأخر عنها كان من الممكن فوات القطار ؟

نشرت موخرا (نيويورك تايمز ) الصادرة من أمريكا تساؤلا مفاده ، هل بوتين رجل استراتيجي ماكر أم هو زعيم مظلوم ومتهور ؟ هناك مقالات كثيرة جدا حول شخصيته الغامضة ، والعدوانية ، والخطيرة ، والماكرة من جانب ، ولدينا مقالات أخرى حول شخصيته المتوازنة ، والمتحركة من خلال الحسابات الدقيقة ، وأنه رجل عقلاني يتحرك بحساب ، وينطلق من رؤية استراتيجية مفادها ( الجغرافيا السياسية ) ، وليس من خلال العقائد السياسية ، فالرجل خطير ، ولكن خطورته تكمن فى شخصيته ، وليس فى برامجه السياسية .

يرى كثير من المحللين النفسانيين أن بوتين يريد من خلاله مواقفه وكلامه وتصريحاته أن يبرهن بأنه رجل ( الحزم ) ويريد أن يظهر بشكل دائم أنه قوي الإرادة ، وليست لديه مواقف عاطفية ، ولكنه من خلال تحركاته يظهر للناس بأن الرجل لديه قوة فى القيادة ، فهو رجل توجيهي ، ويحاول الإقناع ، ولديه منطق فى ذلك ، ولهذا نجد اليوم أن جلّ كتابات الغرب حول الرجل ليست عميقة ، بل هي سطحية كما قال الأستاذ فواز جرجس من جامعة لندن للإقتصاد حيث ذكر بأن كتابات الغرب عن بوتين سطحية ، وتفتقد للعمق والفهم الحقيقي لعقليته ، ويحاولون دوما شيطنته ، وأنه متهور وخطير ويفتقد للعقلانية والتقدير السياسيين ، ويرى أن الرجل لاعب شطرنج ، ولا يظهر استراتيجيته مرة واحدة ، ويختار معاركه بطريقة حساسة جدا .

يرى آخرون ، ومنهم العالم الأكاديمي كريس دويل بأن شخصية بوتين صعبة القراءة ، وصعبة التوقع ، ولكن الغرب استيقظ بعد فوات الأوان ، ورأى فى غزوه لأكرونيا بأن القراءات السابقة عن بوتين لم تكن مكتملة ، بل كانت كما ذكر البعض سطحية ، فكانت القراءت تؤكد بأنه شخص عدواني وخطير ، ولكنه عقلاني يعمل بحساب ، وهذه القراءة كانت قبل الغزو ، ولكن اليوم ، وبعد الغزو يتحدثون عن شخص عدواني ، وتغلب عاطفته على عقلانيته .

إن الرجل يستخدم الشكل أكثر من الموضوع ، ويرسل الرسائل من خلال الصور ، فيجلس على طاولة طويلة ، وهناك يستقبل الزوار الرسميين ، فهو يعيش فى حلم ، ويعمل لاستعادة هذا الحلم ، ولديه تراث سياسي ، ولكن الرجل واجه بعد الغزو ما لم يكن فى الحسبان ، من أين أخطأ الرجل ؟ ولماذا ؟ وهل وقع فى الفخ ؟ أم ما زالت الأيام تحمل فى عمقها دلالات أخرى ؟ هل لدى الرجل حسابات لم يظهرها بعد ؟ أم استنفذ كل أوراقه السياسية ؟ ويواجه اليوم الغرب بكل ما أوتي من قوة ؟

لماذا استيقظ الغرب مرة واحدة ؟ ولماذا اصطف الجميع وراء أمريكا ؟ ولماذا أوروبا اليوم صارت مهمة لأمريكا ؟ ما الجديد ؟ أين أخطأ بوتين فى حساباته ؟ هل كانت الحسابات عنترية صدام ؟ أم هي حقيقية ولم يستخدمها بعد ؟

هناك حقائق ثلاثة يجب تجليتها فى هذا المضمار ، ومن خلال هذه الحقائق نستطيع أن نقترب فهم ما يجرى فى الساحة الأوربية من اصطفافات غربية ، ومن الصمت الصيني ، والانحياز الإمارتي لروسيا ، وتذبذب الموقف التركي الذى هو جزء من الناتو ، ولديه علاقة قوية مع روسيا وأكرونيا معا ، فهذه الساحة الدولية وخاصة الغربية بحاجة إلى فهم لنعرف المسارات والمآلات .

الأولى : الحقيقة الغربية ، والموقف الروسي ، نحن أمام معضلة جديدة وقديمة ، فالغرب يتحرك وفق خطط وعبر مؤسسات ، ولديه حس أمني قوي ، وعنده حسابات دقيقة فى مواجهة العدو ، ولهذا تجده يتحرك ببطء ، ولكنه لا يتوقف عن الحركة ، ويواجه العدو ، ولكنه لا يقبل الهزيمة ، وهذا بعض ما أشار إليه داهية العرب ، وخبير النفوس عند الأمة المسلمة فى زمن البعث الحضاري ، وهو الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فقد سمع حديثا يرويه الصحابي المستورد القرشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس ) ، فتعجب عمرو بن العاص من هذا الحديث ، ووروده فى هذه اللحظة ، وتساءل كيف يكون ذلك ؟ والروم فى حالة انحسار أمام المد الإسلامي ، والإسلام فى حالة مد ونهوض ، ما السر فى ذلك ؟ فأراد أن يتأكد من صحة النقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وحين عرف صحة النقل وسلامته من الراوي الذى قال : أقول ما سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه : لئن قلت ذلك : إن فيهم لخصال أربعًا :

أولا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
ثانيا : وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
ثالثا : وأوشكهم كرّة بعد فرّة .
رابعا : وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف .
ثم استدرك خامسة جميلة وحسنة : وأمنعهم من ظلم الملوك .
من هذا التحليل الصادر من عمرو بن العاص ، وهو من خبراء الجيل الأول ، ومن أعلم الناس فى قراءة التاريخ والواقع السياسي للشعوب ندرك أن بقاء الروم فى التاريخ ( الغرب ) يكمن فى صناعة المؤسسات لمواجهة الخطط ، ووجود مشاريع الإنهاض ، ووضع الخطط البديلة والسيناريوهات فى المواجهة ، وعدم الاستسلام مهما كانت التحديات .

إن الدب الروسي لم يكن فى خططه أن الغرب لديه مخزون من البدائل يمكن له استخدامه ، وأنه لن يترك الوسائل التى تمكّن له المبادرات فى مواجهة روسيا عند غزوها لأكرونيا ، ومن هنا كانت الخطيئة السياسية الأولى التى وقع فيها بوتين بحيث لم يفكر بأنه يمكن للغرب أن يستخدم جملة من الأدوات التى تجعله ينهزم أمام التفكير الإستراتيجي الغربي .

الحقيقة الثانية : استخدم بوتين الذكاء الإستراتيجي المبني على المباغتة ، والمراوغة ، واللعب فى الزمن ، وجعل الغرب لا يفهم ، ماذا يريد هذا العملاق الروسي ؟ هل يريد أن يجعل القوة وحدها سبيلا للتغيير ؟ وهل يمكن لأوروبا العجوز مواجهة روسيا التى جددت شبابها فى زمن ( بوتين ) ، فقد ذكر الفيلسوف الروسي الإلكسندر دوغين بأن روسيا ليست فيها قوانين قوية ، ولكن بها حاكم قوي ، وربما ، لا يدرى أحد ماذا يريد هذا الرجل ؟
لقد دعا السيد بوتين بأن يتم إعداد القوة الإستراتيجية لحماية روسيا ، ومن هذه القوة ( الردع النووي ) ، ولا يمكن استخدام تلك القوة إلا عند الضرورة القصوى ، وهل يرى بوتين أنه ربما سوف تصل الأمور قريبا إلى هذه المرحلة ( الضرورة القصوى ) ؟

لقد استخدم الغرب فى مواجهة روسيا الأدوات الناعمة ، ولكنهم استخدموها بشكل قوي ، ونجحوا فى أسبوع واحد ضرب الاقتصاد الروسي من الصميم ، ذلك لأنهم يملكون تلك الأدوات ، ولديهم مفاتيح الاقتصاد العالمي مما جعل( بوتين ) يفكر مرة أخرى بأنه ليس اليوم على الطريق القويم فى مواجهته للغرب .
لم يكن بوتين يعرف بأن لدى الغرب هذا الحس الأمني الذى يوقظه من السبات ، وربما ظن أن الغرب بدأ يأفل نجمه ، ولم يبق للدب الروسي إلا التحرك نحو التاريخ ، ولكنه أخطأ فى الحساب ، فالفرصة لم تحن بعد ، فما زال الغرب يملك أدوات مهمة فى الحسم العسكري غير القوة الصلبة ، فالمؤسسات الدولية ما زالت فى يديه ، والقانون الدولي ما زال صناعة غربية ، وكذلك القرار السياسي الدولي ما زال أداة قوية يمكن استخدامه فى الغرب بأشكال مختلفة ، ولديه أيضا المؤسسات المالية التى تتحكم صناعة القرار الاستراتيجي المالي ( صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ) ، وما زال الاقتصاد العالمي بيد الغرب ، ومن هنا نعرف سر عظمة الصين فى العمل لعدم المواجهة مع الغرب عسكريا ، أو حتى سياسيا .

الحقيقة الثالثة : أظهر الغرب وحدة غير مسبوقة فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية فى مواجهة روسيا ، وذلك يعود إلى أسباب كثيرة منها ، إن أوكرانيا ليست سوريا ، وليست كذلك ليبيا ، فالجغرافيا السياسية لأوكرانيا مهم جدا لروسيا ، وخطير بالنسبة لأوروبا ، فالنجاح الذى يمكن تحقيقه لروسيا فى الشرق الأوسط قد يكون مقبولا لأسباب تكتيكية ، ولكنه لن يكون مقبولا فى أوروبا لأسباب استراتيجية.
هنا يكون الخطأ الاستراتيجي لبوتين ، بينما أخطأت أمريكا ومعها الغرب فى سوريا ، وليبيا تكتيكا ، ولكن بوتين ، وهو يعيش فى لحظات التألق السياسي حيث نجح فى معاركه فى الشرق الأوسط ، وأعاد روسيا إلى التاريخ من خلال صناعة مشروع عودة ( القيصرية ) فى التاريخ ، ولكنه لم يكن فى حسبانه أن الغرب ما زال يرى فى روسيا عدوّا استراتيجيا لديه حسابات دقيقة فى أوروبا .

لقد راجعت دول كثيرة حساباتها ، ومنها ألمانيا المنهزمة فى حرب العالمية الثانية ، ورأت بأن أمنها القومي فى خطر ، ولهذا يجب أن تخرج من الحالة السابقة المحكومة عليها من الحلف المنتصر ، وقررت فى رفع ميزانية الدفاع لهذا العام كما ذكر المستشار الألماني فى خطاب له حيث أقر بأن أكثر من ( 100 ) مليار دولار يكون من نصيب وزارة الدفاع فى ميزانية الدولة لعام 2022 ، وربما تغير اليابان الخطة ، ولكن الملاحظ فى هذه المرحلة بأن العالم سيتغير بيد أن معالم التغيير ما بعد الغزو لم تتضح بعد .

إن بوتين نجح فى ثلاثة أمور حتى هذه اللحظة ، نجح بأنه صنع عالما جديدا ، عالما يعود إلى ما قبل المرحلة الأمريكية الخالصة ، فالغرب ذاته بدأ يفكر من جديد أنه ليس آمنا تحت الحماية الأمريكية ، فالحماية الحقيقية تكون ما تملك ، وليس ما يملكه لك الحليف فقط ، ومن هنا رأينا كيف بدأ الألمان يغيرون التفكير الاستراتيجي من جديد ، ونجح بوتين كذلك فى تغيير الخريطة السياسية عند بعض الدول ، ربما ، نجد أن أغلب الدول رفضت التدخل العسكري خوفا من اختلال الميزان فى العلاقات ، ولكن بعض الدول المحسوبة على الخط الأمريكي والغربي لم تعلن الولاء المطلق للغرب كما كان العهد سابقا ، ومن هذه الدول الإمارات العربية المتحدة التى انحازت لروسيا ، وتركيا العضو فى الناتو ، والتى تتحرك وفق مزاج خاص وغيرهما من الدول ، أما الأمر الثالث ، فيكمن فى الضربة القاسية لعظمة أمريكا حيث ظهر بأن الغرب لا يريد أن يدافع عن الحليف الاستراتيجي ( أكرانيا ) عسكريا ، وربما ،تصدق المقولة التى قال مبارك فى الزمن الماضي ( المتغطي فى الرداء الأمريكي عريان ) ، وقيل ( بردان ) ، ولكن المتغطي اليوم بالرداء الأمريكي ليس عربيا ، ولا مسلما ، ولا حتى أفريقيا ، بل هو جزء من المنظومة الغربية ، ومن الجدار الاستراتيجي للغرب ، فالحساب هنا دقيق وشديد .

إن الزمن ما زال يحمل بعض المفاجآت ، فلم يستخدم بوتين كل ما لديه من أدوات ، فالرجل كما قيل عنه ، يحسن لعبة الشطرنج ، فلا يظهر كل أدواته مرة واحدة ، ويحسن السباحة ، ولكن هذه المرة ، السباحة ليست فى بحر هادئ ، بل هو فى أمواج متلاطمة ، والعالم اليوم يواجه مرحلة خطيرة ، إنه يعانى من مشاكل ما بعد ( كورونا ) ، ويدخل هذه المرحلة مشكلة مركبة ، وربما سيعاني إلى زمن بعيد ، والقلم يسيل ليكتب لاحقا ما ذا بعد ؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock