السياسةالعمل والمستجداتملفات ساخنة

لا دين بلا سياسة ، ولا سياسة بلا مرجعية . عبد الرحمن بشير

لا دين بلا سياسة ، ولا سياسة بلا مرجعية . عبد الرحمن بشير
………………………………………………………………………….
قال أنور السادات رئيس مصر الأسبق يوما : لا دين فى السياسة ، ولا سياسة فى الدين ، فأصبحت المقولة مثلا للعلمانيين العرب والمسلمين ، ولكن هل هذه المقولة صحيحة فى مبناها ، متينة فى محتواها ، أم هي مقولة جاءت لحظة إنفعال وخوف من التمدد الإسلامي فى لحظة الصحوة المسلمة فى العالم العربي .

لقد تأملت العبارة طويلا ، وقرأت ما كتبه المفكرون من جميع الإتجاهات ، وعشت طويلا مع المدرسة الوسطية فى الفكر الإسلامي ، تلك المدرسة التى ترى بأن الإسلام نظام حياة ، وليس دينا وطقوسها فقط ، ولكنى ، كعادتى أحاول أن أراجع أفكارى باستمرار ، فسألت نفسى ، هل الإسلام دين فقط ؟ أم هو دين وزيادة ؟

رأيت فى العالم الإسلامي تيارين مختلفين ، أحدهما ديني تقليدي ولا يعرف شيئا من الصراع الكوني ، ولهذا فهو يعيش فى التاريخ ، وينفعل مع التراث ، ويغفل عن الواقع بشكل كامل ، أما الثانى فهو دنيوي ، يرى الدين من خلال الصراع الغربي مع الديانة المسيحية ، ويقرأ الواقع بعيون الغربيين ، فهو يعيش فى الواقع المعاصر برؤية غربية ، ويغفل عن التراث ، ولا يعطى أولوية للوحي ، ومن هنا نجد غالبية الأمة تصطف مع التيارين ، فالطائفة المتعلمة تعليما غربيا إلا من رحم ربك متوجهة نحو الحداثة الغربية ، بينما الطائفة المتعلمة تعليما تقليديا إلا من رحم ربك متجهة نحو التاريخ والتراث .

إن العلماني فى قراءته للإسلام مخطئ ، ذلك لأنه يقرأ الدين الإسلامي من خلال التاريخ الأوربي ، والصراع المحتدم ما بين الكنيسة والعلم ، ولهذا فهو لا يلاحظ أبدا الفرق الهائل بين التجربتين ، التجربة الغربية مع المسيحية ، والتجربة الإسلامية مع الإسلام ، فلا وجه للمقارنة بين التجربتين ، ولهذا يكون من الخطأ منهجيا ، الخلط بينهما ، فجميع الدراسات الموضوعية ترفض هذا النقل الحرفي للتجربة الأوربية ، وتنزيلها فى العالم الإسلامي .

إن المتعلم التقليدي فى قراءته للواقع من خلال التاريخ الإسلامي مخطئ ، ذلك لأنه يحاول قراءة الواقع -المتغير ، والمتجدد فى أغلب صوره من خلال التاريخ ، ويريد نقل التجربة التاريخية إلى الواقع ، فلا وجه للمقارنة بين الزمنين ، ولهذا يكون من الخلط منهجيا ، الخلط بينهما ، فكل الدواسات الإجتماعية تؤكد بأن ثمة تغيير عميق جرى فى البنية الإجتماعية ، ولهذا يكون من الذكاء الفقهي ، تجاوز عقلية الفقيه التقليدي ، وبناء عقلية فقهية جديدة من شأنها التفاعل مع الحياة المعاصرة .

لقد تجاوز الزمن لحظة الفقه التقليدي ، كما تجاوز الزمن كذلك لحظة العلماني المستورد للفكر من وراء البحار ، ذلك لأن الأول يحاول أن يجعل التاريخ وحيا ، بينما الثانى يريد أن يحول الوحي إلى تاريخ ، ولهذا فلا مناص من بلورة منهج جديد ، وهو المنهج الذى يرى ضرورة العودة إلى المرجعية الدينية ، ولكن دون أن يفقد الناس حضورهم فى اللحظة المعاصرة ، ونؤكد بأن البشرية لا يمكن لها تجاوز المرجعية النهائية لها فى أية لحظة من لحظات مسيرتها الطويلة .

الوحي الأخير = نهاية الطفولة البشرية .
…………………………………………………
كانت النبوة فى التاريخ البشري شمسا لا تغيب ، ذلك لأن الله الخالق لم يترك البشر بلا هداية ، بل جعل النبوة جزءا من التاريخ ، فكلما ذهب نبي ، جاء على إثره نبي آخر ، وفى هذا نبأ عظيم ، وحكمة جليلة ، ولولا هذه النبوة لانتهت الحكمة من تاريخ البشر ، فكل نبي حمل إلى قومه الكتاب والحكمة ، فالكتاب مثل المشروع والمنهج ، والحكمة مثلت التطبيق والتنزيل ، ولكن حين وصلت البشرية مرحلة النضج ، وتهيأت للدخول إلى مرحلة اليقظه العقلية ، إنتهت النبوة بمحمد الكريم عليه الصلاة والسلام ، ولا يأتِ بعده نبي ، فلا رسالة بعد رسالته ، ولا نبوة بعد خبره ، وفى هذا نبأ عظيم آخر ، وهو أن البشرية وصلت مرحلة النضج ، فلا وصاية عليها ، ومن هنا كانت الآية عظيمة ( اليوم أكملت لكم دينكم ) .

إنتهت النبوة ، فلا رسالة تالية بعد رسالة الإسلام ، ولكن ماذا تحمل رسالة الإسلام للناس ؟ هنا الإمتحان الأصعب ، من يحمل للناس حجة الله ؟ من يمثل كلمة الله فى الأرض ؟
لقد بقيت الشيعة فى مرحلة الطفولة البشرية ، فرفضت أن تمثل الأمة بمجموعها العصمة ، وبهذا فهي تحاول مجاوزة مرحلة الطفولة البشرية ، والتى تعنى فيما تعنى بأنها لا تنجح فى تحقيق النضج إلا من خلال أناس يتصفون بالكمال ، ولهذا يعتقد غالبية الشيعة عصمة الأئمة ، بينما يعتقد أغلب السنة بأن عصمة الأمة تغنى عن عصمة الأئمة ، والسبب هو أن المنهج الرباني الذى إكتمل ، فيه الخلاص ، ولكن المشكلة الحقيقية ، تكون فى الفهم ، وليس فى المنهج .

لقد كانت الأمة تحاول أن تجتهد فى الفهم ، وفى التنزيل ، ولكن الإمتحان الأصعب كان ، وما زال ، وسيظل فى الفهم ، والتنزيل ، وليس فى المنهج ، ذلك لأن المسلمين ، وخاصة فى العصور الذهبية من الإجتهاد توصلوا من خلال البحث بأن المنهج الإسلامي سلم من التحريف ، والتبديل ، وأنه صالح للتطبيق فى كل مكان وزمان ، بل ولاحظوا فيه المرونة التى منحته التكيف مع الظروف المتباينة .
إن الأمة لم ترفض عقلانية المعتزلة ، ولَم تقص ظاهرية الحنابلة ، كما قبلت الأفكار الباطنية للصوفية ، ولكن المدرسة السنية الوسطية بقيت فى الوسط ، فكانت فى بعض الأحيان تدور مع عقلانية المعتزلة دون أن تجعل العقل خصما للوحي ، وتتمسك الظاهر من النص فى بعض الأحايين دون أن تنسى فقه المقاصد ، وروح الشريعة ، وتميل نحو العمق والباطن فى بعض المرات ، ولكن دون أن تحول الدين إلى مسألة خرافية يمجها العقل السليم .

فى دراستنا للفقه الإسلامي عرفنا بأن الإسلام ليس دينا فقط ، فهو دين ودولة ، روح وجسد ، سياسة وإدارة ، فكرة وفقه ، رؤية وحضارة ، عقيدة وأخلاق ، قوة وسماحة .
لقد درس الفقهاء مسألة الحكم فى باب السياسة الشرعية ، ودرسوا مسالة الإقتصاد فى الزكاة ، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة ، والربا وهي موبقة وكبيرة ، بل وتعد من الموبقات السبعة فى الإسلام ، ودرس الفقهاء مسألة الدولة فى باب العقيدة ، والسبب هو أن الفقيه يقتنع بأن الدولة كمسألة وجودية من الأصول ، ولكنها كمسألة إدارية فهي من الفروع ، ولهذا يعتقد كثير من الفقهاء ، ومنهم الغزالي صاحب المستصفى والإحياء بأنه لا يمكن للدين من قومة بدون دولة ، فهذا النوع من التفكير الجاد فى الفقه الإسلامي للدولة يجعل الدين الإسلامي نظام حياة مصطبغ بمرجعية دينية .

لدينا تيار عريض من الإسلاميين يجعلون الفقه شريعة ، ويجعلون الشريعة احكاما جنائية ، ويحولون الأحكام الجنائية حدودا ، فهذا النوع من التفكير جعل الإسلام فى قبضة الجهلة الذين يشوهون جمال الإسلام ، ولدينا كذلك تيار كبير من العلمانيين يجعلون الدين طقوسا ، والشريعة قضايا خاصة ، ويستدلون ما يجرى اليوم من سوء تطبيق للدين من قبل التيارات الدينية التى تشكو من ضيق الأفق ، وقلة البضاعة ، وشدة الحماس ، وغياب الذكاء ، وانعدام الحكمة ، ويجعلون هذا النوع من التطبيق دليلا على عدم وجود نظام سياسي فى الدين ، أو منهج حياة فى الإسلام .

نحن نؤمن بأن لا سياسة بدون منهج ، فالسياسة عمل ، ومن قبلها رؤية ، ومن بعدها عبرة وعظة ومراجعة ، فَلَو لك يكن للإنسان منهج فبم يقيم عمله السياسي ؟ ونعتقد كذلك بأنه لا دين بلا سياسة ، ومن الغباء أن نعتقد أن السياسة صنو للدين ، أو أنها حرب على الدين ، فهذا النوع من التفكير البسيط نجح فى إختراق العقل المسلم المعاصر ، ويستدل البعض بأن الإمام محمد عبدو رحمه الله قال بعد أن إحترق فى السياسة : لعن الله السياسة ، وحتى حرف السين ، ولهذا نجد آخرين يستدلون بأن الإمام الشعراوي رحمه الله قال : نرجو أن يصل أهل السياسة إلى الدين ، ولا يصل أهل الدين إلى السياسة ، ولكنهم لا يذكرون ما قاله القائد الإسلامي أربكان : المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة ، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام .

إن الذين يتركون السياسة خوفا من السياسة سياسيون من الطراز الأول ، ولهذا قال بعض الدعاة ، إن من السياسة ترك السياسة ، ولكن هذا النوع من الترك ، يجب أن تكون ضمن مشروع ورؤية ، وليس ناتجا فقط من فكر منهزم ، أو منبثقا من لحظة تراجع ، ولهذا ترك بديع الزمان التركي المواجهة السياسية لأتاتورك ، ولكنه أعد جيشا من الربانيين الذين خرجوا من مدرسته فيما بعد ليكونوا جزءا من المشروع الحضاري، والذى كان من ثماره السيد أربكان ، فأردوغان ، ومن بعدهما من رجال المشروع .

ليس من العدل أن نقرأ نصا بعيدا عن سياقاته ، ولهذا فليس من العدل أن نقرأ كلام الشعراوي بعيدا عن سياقه ، وإلا فقد فسر الشيخ القرآن ، ورفض العلمانية ، ودعا الأمة إلى تطبيق الشريعة الغراء بكمالها وجمالها وشمولها ، ولكن البعض يأخذ كلاما مجزءا ، ومن دون سياقاته ، فلا وجود لفكر ديني بلا توجه سياسي فى اللحظة المعاصرة ، فهناك سياسات عامة توجه الفاتيكان ، ومع هذا يعتقد البابا بأن ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر ، كما أن جماعة التبليغ والدعوة تأمر أبناءها الإبتعاد من السياسة ، وأن ذلك من السياسة ، ولهذا رأيت من سياسة الجماعة الهدوء مع الأنظمة السياسية ، ولكن هذا لا يعنى منهجا متبعا إلى يوم الدين ، وإنما هو سياسة إقتضتها الظروف الدولية ، وتأثير البيئة الهندية على الفكر التبليغي .

لا وجود لرجل دين فى العالم يعيش بعيدا عن السياسة ، فالسياسة تؤثر حياة الناس بشكل مباشر ، فهي تتدخل فى الشأن الكبير والصغير ، وتؤثر معاش الناس وحياتهم ، ولهذا يكون من السذاجة بمكان أن نؤمن بأن لا دين فى السياسة ، ولا سياسة فى الدين ، ولكنى أعتقد بشكل كبير بأن توظيف السياسة فى تمييع الدين مشكلة كبيرة ، وهي أخطر من فكرة الاٍرهاب ، ذلك لأن السياسة تنجح فى جعل الدين مشروعا للسلطان ، وليس مشروعا ربانيا ، كما أنه ليس من الحكمة جعل الدين مشروع إنتخابات سياسية ، فالدين مرجعية ربانية ، وليس مشروع جماعة ، ولا رؤية حزب فى لحظة معينة .

يمكن لحزب سياسي أن يتبنى رؤية سياسية منطلقة من الفكر الإسلامي ، كما يمكن لحزب مسيحي فى الغرب أن ينطلق من الفكر المسيحي ، ولكنه لا يجب أن يدعى بأن الحقيقة المطلقة لديه ، وان غيره لا يمكن له أن يأتي بغير ما أتى به ، فهذا النوع من التفكير الناضج ضروري فى هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة .
إن هذه المرحلة الدقيقة تتطلب من المفكرين طرح رؤية جديدة من شأنها أن تبدع طريقا ثالثا ، وهو الطريق الذى بدأه الأستاذ على عزت بيجوفيتش فى مشروعه ( الإسلام بين الشرق والغرب ) ، فالإسلام ليس نظاما دينيا خالصا ، كما أنه لَيْس دنيويا خالصا ، بل هو رؤية متكاملة ، فهو إنساني ورباني ، مزيج بين اليهودية الموسوية ، والمسيحية العيساوية ، فلا الجسد يطغى على الروح ، ولا الروح تطغى على الجسد ، كما أنه نظام عقلاني ، ولكنه ليس كانطيا ، فهو نظام روحاني ، ولكنه ليس غنوصيا ، فلا بد من قراءة مركبة للإسلام من جديد لننجح فى تجاوز عقدة النقص عند الدعاة ، وعقدة الخوف والإنبهار عند الحداثيين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock