السياسةالعمل والمستجدات

التفاهة الفكرية فى زمن الكلام العاطفي . عبد الرحمن بشير

التفاهة الفكرية فى زمن الكلام العاطفي . عبد الرحمن بشير
………………………. ………………………………………………
كتب المفكر الكندي الكبير (Alain Deneault ) , أستاذ الفلسفة فى جامعة كيبيك الكندية كتابا خطيرا فى عالم الفكر والسياسة ، وسماه ( نظام التفاهة ) ، وصدر الكتاب باللغة الفرنسية بعنوان ( La médiocraatie) ، فالكاتب تناول فى الكتاب فكرة محورية مفادها أننا نعيش فى مرحلة تاريخية سيئة جدا ، ولم تكن لها مثيلا فى الماضى ، وأن السيادة الآن لنظام سياسي أدّى وبشكل تدريجي إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الحياة.

فى عالمنا الفكري مشكلات عدة ، كلها تنبئ بوجود التفاهة بشكل جذري ومعمق ، وخاصة فى المجال الثقافي والديني ، فأغلب من يعمل فى الثقافة يحسبون بأن الثقافة تعنى فقط نشر الفنون ، وأغلب من يعمل فى مجال الفنون ، يشتغل فى مجال الفنون الهابطة ، وأغلب من يعمل فى مجال الفنون الهابطة ، يشتغلون فى مجال الغناء والموسيقي ، ووراء كل ذلك المال ، والاقتصاد الجشع ، وليس رفع المستوى الفكري ، ونشر الوعي الثقافي ، ولهذا نجد اليوم أن أغلب من يملك المال هم الذين يتاجرون فى الثقافة ، ويمثلون الأفلام ، ويجعلون عقول الناس بلا محتوى فكري .

وفى عالم الدين والفكر الديني ، نجد بعد رحيل كبار الفقهاء ، وعظماء الثقافة انتشار الفتاوى الدينية التى تتناول قضايا معروفة أحرقت فيها بالبحث والنقاش ، ولكنها تتكرر فى كل يوم ، وفى كل ساعة ، وفى كل قناة ، بل وفى كل مسجد ، وكأن العقل المسلم لا يتطور ، ولا يطالب شيئا آخر فى الحياة سوى هذه الفتاوى المكررة .

لقد رحل الأستاذ شلتوت ، صاحب كتاب ( الإسلام عقيدة وشريعة ) ، وهو الذى ناقش مسائل خطيرة فى حياة الأمة بعقل علمي ومنهجي ، وذهب الشيخ أبو زهرة ، صاحب الكتب النوعية ، والنظرات العميقة فى الفقه وأصوله ، وكان يناقش القضايا الكبرى بعقل فقهي منهجي ، وارتحل عن الدنيا الفقيه السوري مصطفي الزرقا ، صاحب الفتاوى المحكمة ، والذى يحرر الفتاوى حين يكتبها بشكل علمي وهادئ ، كما كان ابن تيمية يحرر فتاواه ، والغزالي يكتب كتبه ، فقد ذهب هذا الجيل الذى حاول أن يجيب عن أسئلة العصر ، وعن أسئلة الجيل المخضرم ، فقد أقنعوا ، وأعدوا البديل الفقهي عن القوانين ، والرؤى الفقهية المعاصرة للجيل المعاصر .

ذهب العقل ، وعادت العاطفة من جديد ، ولهذا وجدنا اليوم أن جيلا كاملا من أجيال الصحوة يعيش فى تيه فكري ، وفى تساؤلات عدمية ، فقد تحول كثير من هذا الجيل إلى مدرستين ، مدرسة التكفير والتفجير ، ومدرسة الإلحاد والزندقة ، والسبب هو أن هذا الجيل يبحث عن إجابات لأسئلة معقدة ، وأغلب المتحدثين فى الدين يكتبون فى المجالات العاطفية ، أو فى مجالات الفتاوى فقط ، ومن هنا ، وجدنا كثيرا من الرويبضات يتناولون قضايا خطيرة فى الدين والسياسة ، وفى الفكر والفلسفة ، وأغلب من يتكلم يبحث عن البهرجة والابتذال كما يقول ألان دونو فى كتابه ( نظام التفاهة ) .

من التفاهة الحديث عن الخلافات الفكرية والفقهية فى لحظة الخلافات السياسية ، وفى مرحلة المطالبة للحقوق السياسية الجماهيرية ، وكأن الامة خرجت من الفقر المدقع ، ومن البطالة الفكرية والعملية ، ومن الاستبداد السياسي ، والاحتكار المالي ، فلا تسمع من المنابر إلا قليلا عن حقوق الإنسان ، وعن حقوق المرأة فى الإسلام ، وعن حقوق العمال ، وعن حرية الرأي والتعبير فى الفقه الإسلامي ، كل ذلك ، تركناه للفكر الوافد ، وعندنا من يتكلم فقط لدفع الشبهة ، وليس لتوضيح الرؤية والرأي ، ومن هنا فالجميع يعيش ونحن لا ندرى فى نظام التفاهة .

من التفاهة الدينية والسياسية ، الحديث عن التاريخ بشكل مضخم ، والحديث عن الحاضر بشكل غير مضخم ، وهذا ليس من فقه الميزان ، فالميزان الفقهي مستوحاة من الآية الكريمة من سورة البقرة ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ) ، فهذه الآية تعلمنا شيئا من دستور التعامل مع التاريخ ، فالناس الذين كانوا فى التاريخ لا يمثلوننا ، ونحن لا نمثلهم ، بل لعبوا دورهم فى الحياة ، ونحن يجب ان نلعب دورنا فى الحياة ، وليس من الحكمة أن يسيطروا علينا ، وإن يتحكموا فى مسيرتنا ، وإن يصبحوا عبئا فى مسيرتنا الفكرية والسياسية ، ولكن يجب أن نأخذ من حياتهم ( العبرة ) لقوله تعالى ( فاعتبروا يا أولى الأبصار ) ، فى التاريخ بيان ، وهداية ، وموعظة لقوله تعالى ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) ، وليس من حق التاريخ التحكم فى مفاصل حياتنا ، بل يجب أن نصنع حياتنا وفقا للوحي ، وليس وفقا للتاريخ ، فالتاريخ لا يمكن إعادته من جديد ، لأن الحياة تستمر وتتوجه نحو الأمام ، وليس نحو الوراء ، ولكن من التفاهة الفكرية أننا نخوض معركة الماضى فى الحاضر والمستقبل .

من التفاهة الفكرية ، العيش فى الغرب بعقلية الشرق ، وأن نعيش فى الغرب كقبائل اجتماعية وعرقية فى عالم لا يعرف معنى القبلية ، ولكنه يعرف فقط معنى الانتماء الفكري والمصلحي ، ومع هذا ، نحن نصنع مساجدنا ومراكزنا باسم الدين الممزوج بالانتماء القبلي ، ونحسب أننا بهذا نستطيع أن نقنع الآخرين بالإسلام الذى نحمله بنكهة شرقية ، والإسلام فى حقيقته ، ليس شرقي الهوى ، وليس كذلك غربي المنبت ، فالإسلام دين منزل من الله ، خالد خلود السماء والأرض ، متجاوز للزمان والمكان ، ولكن من التفاهة أن نلعب لعبة النعامة ، فنحسب أن عوراتنا مستورة ، وما هي بذلك .

من التفاهة الفكرية ، الخطاب المزدوج ، والشخصية المزدوجة ، لبعض الناس خطاب خاص ، وآخر عام ، ودين الله واحد ، فخطابه عام ، وهو دواء لجميع الأمراض الفكرية والسياسية والمالية ، ولكن قبل الكلام والكتابة لا بد من فهم مركب ، فهم لدين الله ، وفهم للواقع ، وفهم ثالث ، وهو يخص بالتنزيل ، ومن خلال هذه المفهومات ، سنتحتاج إلى فقه خاص بسنة ( التدافع ) ، وفقه ( المستقبل ) ، وصناعة ( التجديد ) ، وتربية جيل ( النموذج ) ، والذى يطالب المكانة اللائق به ، وتقديم ( الأجدر والأكفأ ) ، وليس الأرفع صوتا .

من التفاهة الفكرية ، الخوف من فقه ( المقاصد ) ، وعدم التعامل مع فقه ( المصالح والمفاسد ) ، وغياب الوسطية والاعتدال ، والابتعاد عن فقه السنن الكونية والاجتماعية، وعدم الاحترام لفقه المرحلية ، وهذا يؤدى إلى قفزات قاتلة .

فى حياتنا الفكرية والدعوية مشكلات كلها تدور حول التفاهة ، ومن التفاهة نشر ( ثقافة الندرة ) والخوف من الآخر ، لأن ثقافة الوفرة تتطلب إلى وجود نفسيات سليمة ، وحينها نبدأ مرحلة جديدة من الحياة ، ونخرج من التفاهة ، ومن اللا فعالية الى الفعالية ، ومن الفاعلية إلى العظمة ، وهذا يتطلب كذلك إلى إرادة ، والإرادة تتطلب إلى إدارة للإرادة ، بل إلى حسن الإدارة ، وكل ذلك يتطلب من الجميع إلى الاهتمام بالمقصد ، وهو ما كتب عنه الشيخ العلامة الغزالي فى كتابه ( إحياء علوم الدين ) ، وكأننا نعيش فى زمن الغزالي من جديد ، ولهذا نحن بحاجة إلى فكر الغزالي لأجل ان نخرج من التفاهة الجديدة فى عالمنا الديني والفكري والسياسي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock