السياسةالعمل والمستجدات

الظلم يحدّد النهايات للدول والأنظمة . عبد الرحمن بشير

الظلم يحدّد النهايات للدول والأنظمة . عبد الرحمن بشير
…………… ……… ……………………………………………
يقول ابن خلدون رحمه الله : الظلم مؤذن بخراب العمران ، ونقول نحن أيضا :العدل سبب لازدهار العمران ، وهذا هو منطق الحياة ، بل هذا هو ميزان الحياة ، وابن خلدون رحمه الله عالم كبير فى دراسات الحضارات ، وفهم السنن ، وخبير استراتيجي فى معرفة مآلات الدول والحضارات ، ولهذا كتب تلك القاعدة الخطيرة ( الظلم مؤذن بخراب العمران ) .

لم يتحدث ابن خلدون عن سقوط الدول ، ولا عن فشل الأنظمة ، بل تحدث عن خراب العمران ، ذلك لأن بناء الدول له هدف أساسي ، وهو ( إيجاد الاستقرار السياسي والاجتماعي ) ، والاستقرار السياسي يؤدى بلا شك إلى ( الازدهار والرفاهية ) ، والرفاهية نتيجة ، وليست سببا ، ومع هذا ، فهي وسط بين السبب والنتيجة الغائية من بناء الدولة ، فلا دولة بدون أركانها ، ومن أركانها الأساسية ( العدل ) والعدل قيمة كبرى فى حياة الشعوب ، بل وفى قيام الدول واستمرارها ، ومن العدل ، أن تكون الشعوب راضية عن النظام السياسي ، وأن يكون النظام السياسي منبثقا من التراضي ، والتراضي السياسي ينبثق من تفاهمات اجتماعية من القوى الفاعلة ، ووجود القوى الفاعلة فى المجتمع حقيقة سياسية ، وهو ما يسميه بعض العلماء فى الفكر السياسي ( أهل الشوكة ) ، وأهل الشوكة عند المجتمعات التقليدية لهم مفهوم مختلف عن المجتمعات الحديثة .

إن مصطلح ( الخراب ) لا يعنى مصطلح ( السقوط ) فالسقوط مرحلة متقدمة عن مرحلة الخراب ، وقد يكون الخراب متقدما فى بعض الأحايين ، لأن السقوط يعنى فقط للأنظمة ، ولكن الخراب يعنى سقوط ( الدولة ) ، أو قد يكون سقوط الهيبة من الدولة مع وجودها الفيزيائي ، ذلك إن النظام شيي ، والدولة شيئ آخر ، والناس حين يقتنعون بضرورة الدولة ، فإنهم يفرقون بدون شك بين الدولة والنظام السياسي ، ولكن حين يرون بأن النظام السياسي هو الدولة ، والدولة هي النظام السياسي ، فإن هذا يدل على أنهم قد وصلوا إلى نتيجة واحدة ، أن لا فائدة من الدولة ، ولهذا فهم يسعون فى تخريب الدولة وهم لا يشعرون ، وليس فقط. فى اسقاط النظام السياسي الفاشل .

يستخدم ابن خلدون مصطلح ( العمران ) وهو مصطلح قرآني ( واستعمركم فيها ) ، ويريد من وراء المصطلح أن الخراب الذى يقع على العمران هو نتيجة سقوط القيمة الكبرى فى الحياة ( العدل ) ،ويربط ابن خلدون بين العدل والعمران ، كما يربط بين الظلم والخراب ، والخراب الذى يحصل حين يكون الظلم فى مجتمع ما لا يأتى فجأة، بل هو يأتى بشكل متدرّج ، وربما ، لا يشعر به الناس فى البدايات ، وحتى فى مقدمات السقوط للدول ، بل الجميع يعيشون حياة رتيبة ، ويتأقلمون مع النظام السياسي المبني على الظلم ، وتجد كثيرا منهم يبحثون عن البديل ، ولكن ليس البديل السياسي المبني على العدالة ، بل البديل السياسي المبني على الظلم ذاته ، وهو ما يسميه بعض الناس ( فن الممكن ) ، وليس بناء الدولة الحقيقية المبنية على التراضي السياسي ، والناتجة من العقود الاجتماعية.

لقد اختار ابن خلدون كلماته فى هذه القاعدة بعناية فائقة ، وهي عند التفكيك أربع كلمات ( الظلم ، مؤذن ، بخراب ، العمران ) ، وكل كلمة تحمل معنى أساسيًا فى علوم الاجتماع ، وعلوم العمران ، وتحمل كذلك مدلولات غاية فى الفهم السياسي ، فالظلم لا يعنى غياب العدل عن المحاكم فقط كما يحسب كثير من الناس ، ولا يعنى كذلك غياب المرجعية السياسية والقضائية عن الأمة كما يدعو إلى ذلك كثير من العلماء ، ولكن الظلم يعنى غياب العدل عن الوطن شكلا ومضمونا ، وواقعا وحقيقة ، فالناس لا يصلون إلى حقوقهم إلا عبر ( الواو ) الذهبي ، وهو استخدام ( الواسطة ) ، أو عبر الراء الفضية ( الرشوة ) ، أو عبر استخدام القاف المهم ( القوة ) فحين يتحول المجتمع من العدالة إلى الظلم ، ويتقبل الناس هذه الحالة ، بل ويرونه ضرورة من ضرورة الحياة السياسية ، حينها فقط بدأ الناس ( المواطن ) يفقد معنى الانتماء الوطني ، فيشعر من الداخل ( الانتماء المصلحي ) ويفكر فى إيجاد البديل عن الواقع ، فلا يكون البديل إلا أن يستخدم الظلم كما استخدم غيره ، فتصبح الحياة كلها ظواهر سياسية تنبئ عن وجود واقع عميق يدل على أن الجميع لا يثق بالجميع ، وهنا تبدأ رحلة غير مرئية ، وهي الرحلة التى فحصها ابن خلدون ، واكتشف عنها ، وسمّاها ( رحلة الإيذان ) .

إن الدولة قبل أن تسقط تمرّ بمرحلة ( الهشاشة ) ، والهشاشة مصطلح جديد فى الفكر السياسي ، ولكنه قديم وواضح عندنا فى حضارتنا ، واستخدمه ابن خلدون رحمه الله ( مؤذن ) ، هناك مرحلة سياسية تكون قبل السقوط ، فالسقوط هي المرحلة النهائية للنظام ، ولكنها ليست هي المرحلة النهائية للدولة ، فقد يسقط النظام ، ولكن الدولة لا تسقط معه ، بل تبقى ، ولكنها قد تبقى فى مراحل ما قبل الموت ، أي تكون مرحلة ( الموت السريري ) ، ولهذا تمر بعض الأنظمة مراحل الهشاشة من الضعف إلى القوة ، ومن قبل الهشاشة ، فقد تعيش بعض الأنظمة فى مراحل ( التنبيه ) الخطير من السقوط ، وكل ذلك يدخل فى قول المفكر الكبير ابن خلدون ( مؤذن ) بخراب العمران .

ربما يخرب العمران قبل سقوط الدول ، ونهاية الأنظمة ، وهذا واقع ٌ اليوم فى زماننا بحيث نجد أنظمة سياسية قوية ، ولها جيوش قوية ، وأنظمة أمنية متينة ، ولكن عمرانها السياسي قد خرب ، والنموذج المصري فى زمن السيسي واضح بلا حدود ، لقد انتهت الدولة كهيبة ، وسقط النظام السياسي أمام الغير ، وفقدت العملة الوطنية قوتها ، ووضع الوطن فى فخ العساكر ، ومن هنا ، نجد عمرانا ماديا يتسع بلا حدود ( المدينة الإدارية ) نموذجا ، وبناء ( الكباري ) الضخمة نموذجا آخر ، وإلى جانب ذلك ، نجد نقصانا بشريا فى عالم العمران ، فالعقول الكبيرة تهرب من الوطن ، او تسقط فى الوحل ، او تعيش فى السجن الصغير ( سجون النظام ) أو فى السجن الكبير ( الوطن ) ، وهنا نجد أن الخراب قد حلّ بالعمران قبل السقوط .

فى هذه القاعدة الخلدونية خبرة عميقة للسياسة ، ودراسة غير عادية للفكر الاجتماعي ، فالرجل يتحدث عن ( خراب ) ، وليس عن سقوط فقط ، له مصطلحات أخرى حول السقوط ، وانعدام الدول ، وتفككها ، وكل ذلك فى كتابه ( المقدمة ) مسطورة بشكل علمي، هنا يتحدث ابن خلدون فن الفشل الذريع للدول ، ويصف ذلك بالخراب ، والخراب مصطلح خلدوني ، والرجل عمل فى السياسة كرجل دولة ، وقضاء ، وله قراءات فى خارج الفضاء الرسمي ، ومن هنا ، فهو بلا شك يتحدث عن السياسة كمفكر ، ويتناول السياسة كذلك كممارس ، فالرجل ليس درويشا يقول الوعظ ، أو مفكرا يتحدث عن السياسة كمثالي ، بل يكتب تجربته بكل المعاناة ، ويناقش المسائل من الداخل .

نحن اليوم نعيش مع حالات مختلفة ، مع حالات سياسية خطيرة ، ولكن كلها تعيش فى مرحلة ( الخراب ) ، ربما بعض الأنظمة لم تسقط بعد ، ولكنها تعيش فى خراب ما قبل السقوط ( مصر ، والسعودية ، وجيبوتى ، ولبنان ) نموذجا ، والإنسان حين يعيش فى داخل الدول بقبضتها العسكرية والأمنية لا يلاحظ ذلك الخراب ، لان القوة المادية تعمى البصيرة ، ولهذا استخدم ابن خلدون ( مؤذن ) وهي كلمة توحي بوجود مقدمات غير مرئية ، ونعيش كذلك مع حالات أخرى بعد سقوط الأنظمة ( ليبيا ، واليمن ، وسوريا ، والصومال ) ، فهذه الدول كلها تعيش فى خراب ما بعد السقوط .

إن العمران لا يعنى بناء العمارات الشاهقة فقط ، بل يعنى العمران ، بناء الدول على أسس متينة ، وهو ما سمّاه الوحي ( التمكين ) ، وكذلك مكنّاه ليوسف فى الأرض ، فالتمكين لا يعنى السيطرة كما شاع فى أدبيات بعض الإسلاميين ، ولكنه يعنى البناء الحقيقي للقيم ، وتمكين القيم على الحياة ، فهذا هو الغائب عن الحياة اليوم فى كثير من بلادنا ، ومن هنا فالجميع يعيش فى داخل ( الخراب ) ، وكم كان ابن خلدون عظيما فى قوله ( الظلم مؤذن بخراب العمران ) !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock