الإقتصادالثقافةالدين و الترييةالسياسةالصفحة الرئيسية

عناية الشيخ الخديم بعمارة المساجد : شواهد تاريخية. بقلم المفتش : عبد الأحد لوح

عناية الشيخ الخديم بعمارة المساجد : شواهد تاريخية.
بقلم المفتش : عبد الأحد لوح
في الوقت الذي تستعد فيه الطائفة المريدية لتدشين “جامع مسالك الجنان” في داكار عاصمة السنغال، أرى من الأهمية بمكان أن نعيد إلى الذاكرة الجماعية شواهد من سيرة العبد الخديم تتبلور فيها مدى عنايته بعمارة المساجد في مختلف حلقات حياته المباركة.
والحق أن أمر المساجد ظل هما يشغل وجدان الشيخ الخديم في خاصة نفسه وفي تربيته لعامة المريدين. ومما يصور ذلك :
1- ما حكاه الشيخ محمد عبد الله العلوي الشنقيطي قائلا ” وكان- حفظه الله- أمَّارا ببناء المساجد، وتكثيرها، وتنظيفها، وقلة الكلام فيها”. (النفحات المسكية في السيرة البكية، ص 138 ). ونقل العلوي الشنقيطي عن بعض المريدين الثقات” أنه قبل هجرته المذكورة كانت وسط الحائط المدير على بيوته اثنا عشر مسجدا قدر ساعات الليل، وكل واحد منها عنده إناه فيه الماء، يمكث في كل واحد منها ساعة من الليل، وإذا أراد الدخول في واحد منها جدد وضوءه”. (المرجع نفسه). ولعل ذلك هو مغزى قوله في قصيدة نور الدارين :
واجعل بيوتي كلها مساجدا +++ يا نافيا من لا يكون ساجدا
ويضيف العلامة الموريتاني قائلا: ” وكان هذا الشيخ-حفظه الله- لا يرى بقعة قليلة النبات حصباؤها لينة، إلا وتمنى أن يجعل فيها مسجدا. وإذا قرب المسافر من بلاده يعلم ذلك؛ لأن ما حول بيوته من الفلاة لا بد أن تكون فيه المساجد المحظورة بالخشب”. (المرجع نفسه).
2- ما يحكيه الشيخ الخديم عن حادثة وقعت له أثناء الغيبة البحرية في الغابون حيث قال : ” … ذات يوم نصبت أربعة عيدان في مصلاي بباب بيتي ؛لأصرف بها المارين عن موضع صلاتي، فبصر بها الحاكم وقام من فوره وأتاني ، ونقض المسجد ، وقلع العيدان ورمى بها ، وقال : لا صلاة هنا، ولا إسلام، تريد أن تفسد علينا الجند؟ فسكتت، وحلمت عليه، فلما علم به ( يِلِّ سي) قام من فوره – والحاكم لما يزل- ووصل إلينا مُغْضَبا، وقال للحاكم : لم نقضتَ مسجده ، وهو بباب بيته لم يُضيق على طريق، ولا على أحد؟ فقال الحاكم: كذلك أفعل، لا مسجدَ هنا،، فقال له (يل) : لابد أن أرُده على حاله. فقال الحاكم : لا ترده ، فحال الناس بينهما أن يتضاربا، فبقيا من العصر إلى الغروب يتخاصمان، كل ذلك وأنا أكتب . وفي هذه القصة كتبت قصيدة : ( ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها… الآية) :
رضيت عن المولى تعالى الذي ربى +++ فؤادي وأغناني فأكرم به ربا
إلى أن بلغ قوله :
له اكتب صلاة مع سلام بآله +++ وأصحابه واجعل به مسجدي رحبا
قيل له : استُجيب لك سوف تراه . وقد رأيناه ، وهو مسجد جربل، وطوبي “(إرواء النديم، ص 60).. ويضيف الكاتب الدكاني قائلا: ” وكان من قضاء الله أن وفد عليه زائر “يل سي” من تلك الناحية في انجاريم بعد ابتناء المسجد، فقال لي الشيخ أنا وصاحب لي : اذهبا معه يزور المسجد، فذهبنا، وطاف به يمينا وشمالا، شرقا وغربا، ظهرا وبطنا، وذهب به العجب كل مذهب. فلما رجعنا قال له الشيخ: كيف هذا وما كنت رأيت ، أيها المقاتل عني؟ قال: سبحان الله لا مناسبة بينهما. قال الشيخ: هذا هو معنى قولي :
نفى لغيري الله في مايمبا+++ ما ساء قلبي وأعلى الجنبا
“ما ساء قلبي” هو نقض المسجد. ” وأعلى الجنبا” هو ارتفاع المنارات هذه”(المرجع نفسه).
3- مسجد جربل الذي أشرف على بنائه شخصيا؛ حيث وضع حجره الأساسي في السابع والعشرين من جمادى الثانية عام 1336هـ. وكان يوما مشهودا في تاريخ المريدية. ومن أجل ذلك، وصف الشيخ محمد الأمين جوب البقعة المباركة في جوربيل بعد نزول الخديم فيها قائلا : ” فصارت القرية أعمر قرية بمساجدها ومدارسها القرآنية والعلمية” (إرواء النديم ص 94).
4- أن خديم الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتما بعمارة المسجد معنويا وماديا. عن ذلك يقول الشيخ محمد البشير: ” أما نقل الأقدام إلى الجماعة فهو ما كان دينه، وشغل قلبه المقدم على غيره، فلم يعرف في حاله إلا الصلاة في الجماعة، ولا الجماعة إلا في المساجد. فمن صِغره حين يصاحب الوالد في المقام والرحيل لتعليمه ولقضاء الحوائج، لا يصلي إلا مع الجماعة” (منن الباقي القديم، ص 310).
ويقول الشيخ محمد الأمين جوب : ” ومنعته ( الجماعات) من الخروج إلى المسجد حتى احتاج إلى رفع المسجد إلى قرب بيت سكناه؛ لأنه كان لا يتخلف عن الجماعة، لا ليلا ولا نهارا، لا حرا ولا بردا، لا صحوا ولا غيما ، وترك للناس طريقهم في الدار إلى المسجد، واتخذ لنفسه طريقا خاصا إلى محرابه، فلا يرونه إلا إذا وقف في المحراب، وفتح الباب، إلا الشباك الرقيق الذي لا يمنع من التمكن من رؤية شخصه في جملة الصلاة، ويسد الباب، إذا أتم الصلاة ويبقيه مفتوحا للإقراء” (إرواء النديم، ص 102).
وعن مراقبته لأوقات الصلاة يقول ابنه الشيخ محمد البشير مباكي” أما انتظاره للصلاة بعد الصلاة، فهو رباطه طول عمره. كان رضي الله عنه لا يحويه مكان ولا يغشاه زمان إلا وهو عند ذلك في أي مكان، مراقبا للوقت، ومنتظرا للنداء”.(منن الباقي القديم، ص 312).
وإذا كان المؤذن من وسائل تذكر الوقت، فإن للخديم قصة مع المؤذنين. عن ذلك يقول الشيخ محمد البشير : ” وأما المؤذن الأمين، فلا يفارقه في حضر ولا في سفر من الأسفار….ومهما بالغ المؤذن في مراعاة الوقت ومراقبته، فلا بد له في كثير من الأوقات أن يأتي المسجد، والشيخ قد سبقه” . وفي هذا السياق يروي العلوي الشنقيطي” أنه يوما بلغ أولُ وقت صلاة الظهر، وكان المسجد عنده مريد لا يشتغل إلا في الأذان ومراقبة الوقت، فلم يسمعه أذن، فذهب إلى المسجد، وتقارن مجيئُه مع مجيئ المؤذن، وأراد أن يؤذن، فقال له: ليس هذا وقت الأذان، ودخل، وصلى بالناس، فلما خرج من المسجد دعا ذلك المريد، وقال له: أخرجت من عند أهلك إلينا تريد أن تتهاون بالصلاة، وتلعب بها عندنا؟ ارجع إلى أهلك، أو لاتُعِدْ هذا الفعل القبيح”(النفحات المسكية، ص 129) . بل إنه اتخذ المسجد مقرا أساسيا في أواخر حياته ، حيث ” …فتح كوة من المسجد، لكثرة جلوسه فيه؛ ليتلقى الناس بها على كثرتهم، وكثرة زحامهم من كل جنس…بين مريد وزائر، وسائل ومستفت. ويقضي حاجات الجميع في الأويقات التي يطلع عليهم بها”( منن الباقي القديم، ص 312).
5- أمر المريدين بعمارة المساجد :
“وكان يأمر المريدين كثيرا بالصلاة في الجماعة، ويرغبهم فيها. كان عنده مريد موكل على قرى الأضياف والمريدين، وربما شغله ذلك عن صلاة الجماعة، فصلى الشيخ في المسجد يوما، وسأل عن ذلك المريد: هل حاضر في فضل الجماعة أم لا؟ فقيل له : إنه لم يصل فيها. فلما خرج دعاه، وقال له اذهب إلى أي بلد شئته، وقال له: لا يسكن معنا من يرى الجماعة، ولا يصلي معها”. (المرجع نفسه). ويُروى أنه ” ما كان يقبل في وقت أداء الفرائض ووجوبها أن يعمل له شيء إلا بعد الأداء وسقوط الواجب؛ فقد كانت التلامذة إذا كانوا في خدمة حتى اقيمت الصلاة، لا يحرك أحد شيئا إلا بعد الصلاة. وإذا لم يعلم ضيف او وارد عليه عادته في ذلك، وعمل شيئا ساعة وجوب الأداء والتمكن منه، ينقضه بعدُ، ويعاد الأداء”. (المرجع نفسه). ولم يزل رضي الله عنه على هذا الوضع إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، فكأن آخر أوامره لمريديه متعلقا بأمر المسجد. يقول الشيخ محمد البشير” …حتى إني حفظت أن آخر ما شغل به مريديه القائمين بأبنية داره وإصلاحها، أن شقوا له طريقا من أخريات الدار المتنائية المترامية الأطراف، والممتلئة من البيوت والعرصات، يؤديه إلى المسجد بلا انحراف عن سمت الباب الذي يدخل منه، وأوصى في عشية ذلك اليوم( يوم السبت) بعد صلاة العصر، آخر خطبة خطبها، وآخر مخاطبة أيضا، وآخر عهده في الدنيا ومعاملة أهلها، التحق بعد صبيحة تلك الليلة، ليلة الأحد التي هي آخر ما صلى في المسجد، وآخر حسه بالدنيا – بنحو يوم- بالرفيق الأعلى”.(المرجع نفسه) ؛ وذلك في العشرين من محرم عام 1346م الموافق للتاسع عشر من يوليو عام 1927م.
6- أن بناء مسجد طوبى شكل جزءا من المشاريع الثلاثة التي لم يحققها الشيخ الخديم في حياته، كما أشار إلى ذلك الشيخ مباكي بوسو في رسالة موجهة إلى الحاكم العام ” بريفيه”، فحواها أن الشيخ لم يبق له من حوائج الدنيا فيما نعلم إلا ثلاث: ألا وهي المسجد الجامع (في طوبى)، ورحلة الحج، ومدرسة تكون رحلة السنغال إليها في العلوم العربية شرعيتها وآلاتها”. (رسالة الحاج مباكي بوسو إلى الحاكم العام بروفيه)
ومع أن هذا المشروع لم يتحقق في حياته، إلا أنه كان قد اتخذ المبادرة والتدابير اللازمة لبنائه في أواخر أيامه؛ وفي هذا السياق، يؤكد والدنا الشيخ أحمد لوح مختار أن الشيخ الخديم دعا جمعا من ذوي قرباه بقيادة مام جيرن،” وأمرهم ببناء مسجد عند طوبى، ثم بعد ذلك دعا جميع المشايخ ، وأمرهم به، وذلك في دمسش( 1344هـ) وفي يوم السبت الخامس والعشرين من صفر همسش( 1345هـ/ 12 سبتمبر 1925)، تهيأ الشيخ إبراهيم فاط للسفر من دار المعطي إلى طوبى، ودعا المريدين جميعا لخدمة المسجد، وأمر الشيخ مصنب، والشيخ أحمد الفاضل أن يذهبا إلى موضع الأحجار، وهناك جمع غفير يؤدون الخدمة حسب مقتضياتها، وجميع ذلك في عام همسش” ( تعريف في ابتداء مسجد طوبى، ص 1). ثم حالت ظروف دون تحقق المشروع في حياة العبد الخديم. غير أن وضع الحجر الاساسي تم في عهد خليفته الأول الشيخ محمد المصطفى، وتحديدا يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة في عام 1350هـ ( 25 مارس 1932م).

ولا شك أن عناية الشيخ الخديم بعمارة المساجد ماديا ومعنويا، كان لها أقوى الأثر في نفوس مريديه على امتداد تاريخ المريدية ومعاقلها، وبالتالي، فإن “جامع مسالك الجنان” يُدون في سجل آثار تربية العبد الخديم ، رضي الله عنه وأرضاه، وأبقى تراثه الروحي قبسا ينير درب السالكين.
حرر في طوبى يوم الأحد غرة محرم 1441هـ / فاتح سبتمبر2019م.
ملاحظة : هذا المقال مقتطف من نص محاضرة ألقيتها بمناسبة افتتاح المسجد الجامع في قرية التنعيم (نيومري تيونييل) يوم الجمعة 7 ربيع الثاني 1438هـ/ 6يناير 2017م تحت عنوان : عناية الشيخ الخديم بعمارة المساجد وأثرها في حياة الشيخ مختار بنت لوح .(بتصرف).

من مراجع البحث :
1- بوسو، الحاج مباكي رسالة إلى الحاكم العام ” بروفيه”، نسخة مخطوطة؛
2- جوب، الشيخ محمد الأمين، إرواء النديم من عذب حب الخديم. القاهرة : دائرة خدمة الخديم 2008؛
3- لوح، الشيخ أحمد لوح مختار، تعريف في ابتداء مسجد طوبى، نسخة الكترونية؛
4- مباكي، الشيخ محمد البشير، منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم. تحقيق محمد شقرون. الرباط: مطبعة المعارف الجديدة 2012م؛
5- الشنقيطي، محمد عبد الله بن عبيد الرحمن العلوي، النفحات المسكية في السيرة البكية، دراسة وتحقيق محمد بمب درامي وأبو مدين شعيب تياو الرباط : مطبعة المعارف الجديدة، 1437هـ/ 2015م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock