السياسةالعمل والمستجدات

مقال : الدارة.. وجدلية العصرنة..!!

#مقال : الدارة.. وجدلية العصرنة..!!
الـــدارة في السـنغال تطلق عــلى “المــدرسة القــرآنية”، أو المكان المخصص لتعليم القرآن الكريم، وتجمع بــ: “دارات”، والكلمة في مدلولها تماثل كلمة (الخلوة) أو (الكتاب) في بلاد أخرى مثل السودان ومصر.
وتعد الدارة من أعرق مؤسسات التعليم الإسلامي في السنغال، ومن أكثر القطاعات التعليمية حيوية ونجاحا، فعلى الرغم من إمكـانياتها الضئيلة، حققت عبر تاريخها المديد انجـازات هائلة مــن الناحية التربوية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك يحتفظ لها التاريخ السنغالي بالكثير من الصفحات المشرقة والمنيرة. ورغم تلك النجاحات والإنجازات، فقد كانت الدارة تعد في قائمة المؤسسات المهملة التي لا تتمتع بوضعية قانونية محددة أو اعتبار دستوري معين. وظلت هكذا حتى أواخر عام 2012م عندما انتهزت الحكومة السنغالية بعض الحملات المتكررة التي تشنّ ضد الدارات فأطلق مشروع قانون أساسي يهدف إلى تنظيم الدارات القرآنية والعمل على تحديثها وعصرنتها، وبدأ المشروع يرى النور في عام 2016م، إلا أنه لم يلق رضا كثير من أهل الدارة ومعلمي القرآن الكريم ولم يقتنع به كثير من الغيورين بشأن الدارات، ما أدى إلى خلق جدل كبير بين من يؤيد المشروع متفائلا به، ومن ينتقده متشائما ومتوجسا منه. وبما أن الحكومة لم تفتأ تروج بالمشروع وتحـاول الاقناع به مستغلة في ذلك بعض الهجمات المتجددة والانتقادات المتكررة ضد الدارات؛ فإن الجدل حول هذا المشروع وما يتعلق به ما زال قائما ومتجددا بتجدد الأحداث والقضايا المتعلقة بالدارات. وتعد قضية (سرين خادم غي) التي بالغ الإعلام المحلي في ترويجها، من أحدث القضايا التي أثارت الضجة والنقاش حول الدارات والممارسات التربوية التقليدية فيها، والتي أعادت كرة الجدل لتدور حول المشروع الحكومي لتنظيم الدارات وعصرنتها.
أزمة ثقة.. تشكل واجهة المشهد:
في خِضمِّ هذا الجدل أول ما يلاحظه المتابع على واجهة المشهد، هو وجود أزمة في الثقة المتبادلة بين الطرفين (الحكومة وأهل الدارة)، ففي حين تحاول الحكومة الاقناع بصدق نيتها ونبل غايتها، وتعتبر المشروع مبادرة لاستدراك بعض الثغرات الدستورية أو القانونية التي تجسدها القسمة الضيزى لحقوق التعليم بين شرائح المتعلمين من أبناء الوطــــن، يــرى بعض أهل الدارة أن الواقع مخالف لذلك، وأن هناك نوايا مبيتة وراء المشروع، تتجلى في محاولة تطويق التعليم القرآني والإسلامي وتوسعة المجال للتعليم الفرنسي العلماني، وأن المشروع –في اعتبارهم – امتداد للمشروع الاستعماري الذي وضعته الإدارة الفرنسية سابقا للغرض نفسه. وأيا ما كان الأمر فإن المدقق يدرك أن عدم ثقة الطرف الأخير بالحكومة وتوجسه من المشروع لم يأتيا من فراغ، وإنما انطلقا من حيثيات جديرة بالاعتبار، لعل من أبرزها الغموض الذي يحيط ببعض بنود المشروع التي سيتم تحديد تفاصيلها بمرسوم رئاسي، مثل المواد رقم 3 – 4 – 5 – 14-18 ، والذي جعل البعض يشم في القانون رائحة المؤامرة وحصار التعليم القرآني والإسلامي. ويؤيد ذلك كون بعض نقاط المشروع مشابهة لبعض النقاط الواردة في قانون الاستعمار القديم تجاه الدارات.
والأدهى من ذلك ما تداوله بعض المواقع الإخبارية، أن السفارة الفرنسية بالسنغال – بمشاركة من نظيرتيها (سفارة لوكسمبور وبلجيك) – قامت بتنظيم طاولات مستديرة للنقاش والحوار حول مشروع القانون الأساسي للدارات، بحضور بعض رجال الدولة من الساسة وغيرهم من حاملي الثقافة الفرنسية، وذلك في الخميس الموافق: 26/02/2015م.
والسؤال المطروح في هذا الصدد هو: ما علاقة سفارات هذه الدول بمشروع وطني من هذا النوع وما دورها فيه حتى تنظم طاولات نقاشية في شأن هذا المشروع؟
فلو كانت هذه الجهات هي التي قامت بتمويل مشروع دعم تحديث الدارات (PAMOD) المخطط له في عام 2015م، والذي من أبرز مكوناته بناء 64 دارة حديثة في سبع مناطق مختلفة بالبلاد، أو على الأقل ساهمت في تمويله، لكان من الممكن تفهم الأمر – نوعاً ما – أو الإجابة عن السؤال بسهولة، لكن الواقع هو أن المشروع المذكور ممول من قبل البنك الإسلامي للتنمية (IDB) الذي قدم نسبة 80% في حين تكفلت الحكومة السنغالية بالنسبة المتبقة (20%)، ولا علاقة لأي جهة أخرى به – حسب ما أكده المسؤولون – وإذا كان الأمر فعلاً كذلك فسيبقى السؤال المطروح عالقا دون إجابة واضحة ويبقى الأمر غامضا ومثيرا للقلق!!
نعم، للتحديث.. ولكن؟
من البدهيات تقرير أن العمل البشري لا يخلو من الخطأ أو التقصير نظرا لطبيعة الكائن القائم به، وعليه، فإن التحديث والتقييم والتطوير تعد من سنن الكون وضرورات الحياة، يخضع لها أي عمل بشري،
خاصة إذا كان العمل متعلقا بمجال التعليم الذي هو أساس من أسس التقدم والرقي الإنساني، فضلاً عن أن تكون المادة العلمية كتاب الله الأعظم الذي هو منهاج الحياة وسلم النجاة. والاستسلام لهذه الثوابت يلزم منا الإقرار بضرورة تحديث وعصرنة الدارات القرآنية وأي مؤسسة تعليمية أو تربوية أخرى تفتقر إلى التحديث والتطوير، سواء من حيث البيئة أو من حيث النظام والمناهج التعليمية.
ولكن ينبغي في إطار هذا التحديث مراعاة الخصوصيات وعدم الخروج من اللازم أو المطلوب القابل للتحديث، فإذا كان المقصود بالتحديث هو توفير الدعم اللازم للدارات وتحسين ظروفها المادية مع تطوير بعض الأساليب التعليمية والتربوية التي قد عفى عنها الزمن، فهذا جدير بالإشادة والتشجيع؛ أما إذا كان المقصود بالتحديث هو إدراج التعليم الفرنسي العلماني في مناهج الدارات ومحاولة التقريب بينها وبين مناهج التعليم الرسمي الحكومي، فهذا إلى صرف الدارات عن مهامها الأساسية تحت غطاء التحديث أقرب من الإصلاح الحقيقي الهادف.
خاصة إذا علمنا أن افتقار المنهج التربوي الرسمي الحكومي إلى فلسفة المجتمع السنغالي وقيمه وتقاليده أحد العوامل والدوافع الأساسية التي تجعل الكثير من المجتمع السنغالي يوجهون أبناءهم إلى الدارات أو المدارس العربية الأهلية ليتلقوا تعليما دينيا تكون مناهجه أقرب إلى فلسفة المجتمع السنغالي المسلم وقيمه الفاضلة.
ختاما..
إن عملية تنظيم الدارات وتحديثها لمواكبة العصر مبادرة جميلة، إذا كانت تنطلق من مبدأ الإصلاح والتطوير الهادفين، ولكن لكي تؤتي ثـمارها المرجوة دون أن يترتب عليه أي أثر سلبي، ينبغي تكليف المهمة لمن لهم علم بالدارة وطبيعتها ولمن لهم معرفة بقواعد تعليم القرآن الكريم وتحفيظه في الدارات؛ لأن من أدبيات حل المشاكل اختيار الشخص المناسب للمهمة، ولا شك أن التدخل للإصلاح بدون علم أضراره أكبر من نفعه. كما أن الأمر يتطلب دراسة عميقة وإشراك جميع الأطراف المعنية، مع عدم السماح بتدخل أي طرف أجنبي، وإذا تمت مراعاة هذه فسيغلب الظن على أن يسفر المشروع بنتائج مرضية لا تخل بالوظيفة الأساسية للدارات.

بابو نيانغ
السودان – خرطوم
02/12/2019م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock