الدين و الترييةالسياسةالعمل والمستجدات

باقات تربوية فى حدائق النبوة . عبد الرحمن بشير

باقات تربوية فى حدائق النبوة . عبد الرحمن بشير
………………………. ………………………………
فى الأدعية النبوية فقه وحِكم ، وهي فن وذكر ، وكتب شيخ الدعاة ، وحكيم الدعوة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتابا كاملا حول ( فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء ) ، ومن الأدعية التى تركت فى حياتى أثرا ، وكلما أقرؤها فى الصباح والمساء أتوقف عندها لأزداد بها علما وحِكما ، ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ، وقهر الرجال ) وفى رواية ( من ضلع الدين ) .

تأملت طويلا فى هذا الدعاء ، فوجدت فى هذا الدعاء الخاشع شمولية واستيعابا ، وفيها عمق وذهاب للذات الإنسانية ، والإنسان يحاول من خلال هذا الدعاء أن يسأل ربه الطمأنينة النفسية ، والاستقرار الاجتماعي ، وعدم الخوف من الحياة ، والفهم الصحيح للتعامل مع المال ، والبعد عن القهر السياسي ، وعدم الوقوع فى براثن الدين .

فى الباقة الأولى نجد أن الإسلام يربي المسلم من خلال الدعاء على التوازن التام فى الحياة ، فالإنسان قد يخرج من التوازن فى بنيته النفسية لما يتعرّض له من هزّات اجتماعية وتربوية ونفسية ، فيدخل فى مرحلة الضعف والتردّى ، بل ويصبح من أصحاب عاهات ( الهم والحزن ) حينها يبدأ مرض العصر يسدل ستاره على نفسه ، فيعيش فى ( القلق ) والذى قد يؤدى إلى الانتحار ، أو الموت البطيئ نفسيا وعقليا ، ومن هنا فالإسلام يربي الفرد المسلم على الاستعاذة منها ثلاثا فى الصباح والمساء حتى لا يفقد التوازن النفسي ( التسوية النفسية ) بعبارة القرآن ( ونفس وما سوّاها ) ، أو يحاول أن يستعيد عافيته .

فى الباقة الثانية ، نتعامل من خلالها مع مرض خطير يصيب الفرد ، وهو مرض ( الكلّ ) بعبارة القرآن ( وهو كلّ على مولاه ) ، ذاك مرض اجتماعي قاتل ، وهذا النوع من الناس يصبح عبئا حضاريا ، لأنه عاجز عن العمل ، ولديه كسل فكري ، فالعجز والكسل مرضان ، وهما كذلك ناتجان عن التربية السلبية للشعوب ، فهناك شعوب كاملة تكره العمل ، وتحب الكلام ،وحيث يجلس أبناؤها أمام التلفاز الساعات الطوال ، ويتعاملون مع الوسائل الجديدة سلبا ، ومنهم من يقبع فى المطاعم والمقاهي والفنادق بلا عمل ، إنها ردّة حضارية ، وسقوط أخلاقي ، بل وهناك شعوب تحتقر الأعمال المهنية ، وتمدح الأعمال السلبية ، ولهذا وجدنا كتاب الله يذكر هولاء بأشنع النعوت ( أينما يوجّهه لا يأت بخير ) فهو منعدم التخصص ، لا يحسن اعمال الفكر ، ولا يحسن أعمال الحياة كذلك ، ولهذا وصفه كتاب الله ( لا يقدر على شيئ ) ، بل فهو ( أبكم ) ، إنه من طينة عجيبة ، وليس من العبث أن يربي الإسلام الفرد على الإستعاذة من ( العجز والكسل .

لقد رأيت بعض الناس يعيشون فى عقود طويلة ، ولكنهم يبقون كما كانوا ، لا تطور فى حياتهم ، ولا تغير فى نوعيات أفكارهم ، بل تجدهم يتراجعون ، والسبب هو ما ذكرته الآية ( أبكم + لا يقدر على شيئ + كلّ على مولاه + أينما يوجهه لا يأت بخير = إنسان العجز والكسل ) .

فى الباقة الثالثة من الدعاء وقفة عجيبة ، وهي أن الإسلام يربي الفرد على العيش بسلام مع المجتمع ، فلا يخاف من الناس ، ولا هو يبخل من ماله عن الناس ، فالمال ليس هدفا يطلب لذاته ، بل المال وسيلة لتحسين الحياة ، ولرفع مكانة الأفكار والمبادئ بين العالمين ، ومن عمل لذاته فقط فقد خسر ، ومن فهم دور المال فى الحياة ، وعمل لذاته ولغيره نجح وفاز ، وهذا هو الفرق بين رجل الاعمال عند بني إسرائيل ( قارون ) وبين رجال الأعمال عند الصحابة ( عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ) ، فالأول كان جبانا وبخيلا ، ولهذا ترك ماله يغرق سفينة حياته ، ولم يستفد من ماله أحد من أهله ، بينما صار المال عند الصحابة سفينة نجاة لهم ولمجتمعهم ، وكان المال وسيلة لنجاح الرسالة ، وبفوزهم فى الدنيا والآخرة ( ذهب أهل الدثور بالأجور كلها ) ، الجبن مسألة فردية ، والبخل مسألة اجتماعية ، وباجتماعهما تصبح الكارثة مركبة .

فى الباقة الرابعة من الدعاء كلام فوق الوصف ، وروعة من كلام النبوة ، وحِكم من كنوز الدعوة المحمدية ، تساءلت ، وأنا أقرأ هذا الدعاء علاقة المال بالحكم سلبا وإيجابا ، ففهمت من خلال الدعاء أن غلبة الدين وسيلة لقهر الرجال ، وهذا يعنى فقها ما يُقرّر به فى العلوم الاجتماعية والسياسية أن ( الديون مقدمة للاستعمار ) ، ثم قرأت الشركة الكبرى التى من خلالها استعمرت بريطانيا القارة الهندية ( الشركة الهندية الشرقية ) ، وكيف نجح المال فى تفتيت الدولة العثمانية ؟ وكيف نجح المال الغربي فى إغراق الديون فى العالم الثالث ؟

فى ثقافتنا كلمة رائعة ( الدين همّ بالليل ، وذلّ بالنهار ) ، فهو كذلك فى حق الأمم والشعوب كما هو فى حق الأفراد والأسر ، ذلك لأن الدولة التى لا تملك مالا يغنيها عن السؤال وتعيش على الدّين كما هو شأن الدول الضعيفة فى العالم المتخلف ، فتبقى أمام الدول القوية ضعيفة ، وتشعر بالذل ، ولو كانت تبدو امام شعبها أنها قوية ، وكذلك الفرد والأسر ، واليوم جعل النظام العالمي الحياة كلها تحت ضغط الدين ، بل ونجد بعض البنوك الإسلامية على أنها تسير فىٍطريق الرأسمالية شبرا بشبر ، وذراعا بذراع فى النظام الرأسمالي فى الدين ، وقليل من تغيير المصطلحات ، وتبديل بعض الكلمات تتحول بعض المؤسسات المالية من بنوك تدّعى أنها إسلامية تقوم على الدين والربا ، ولكنها تلقّح ببعض المصطلحات الدينية والفقهية لتكون مقبولة شعبيا ، وخاصة من أبناء الصحوة ، وهذا الأمر ليس عاما ، ولكنه يكاد يكون قريبا من العموم ، ونرجو من فضيلة الشيخ الدكتور علي القرداجي وأصحابه التنبه لهذه الخطورة ، والتصحيح فى هذه المرحلة يكون ضروريا .

نعيش اليوم فى مرحلة متقدمة من القهر السياسي ( قهر الرجال ) وهو يعنى بلغة العصر ( الاستعمار الخارجي ، والاستبداد الداخلي ) ، ومن ( ضغط الديون ) الذى يعنى بمصطلحات العصر (ًالاستعمار الاقتصادي ) ، وهذا هو الذى جعل اليوم مصر العربية كنموذج فى ضياع الدول الكبرى أمام الديون حيث كانت يوما ما فى التاريخ الحديث من أفضل الدول اقتصادا فى المنطقة ، وهذا كان قبل الثورة العسكرية فى زمان عبد الناصر حيث كان الدولار الامريكي فى المصارف يوازى بخمس وثلاثين قرشا ، أي ثلث الجنيه المصري ، واليوم تجاوز الدولار السقف المعقول حيث وصل صرف الدولار بثلاثين جنيه ، والسبب هو الدين حيث يتمّ البلد من قبل العسكر الجهلة بغرق الدين ، والدولة تعيش اليوم بالدين الخارجي والداخلي ، والعسكر لا يرحمون ، لأنهم تركوا ثكناتهم ، وعملوا فيما لا يحسنون .

كم كان النبي العظيم حكيما عليه الصلاة والسلام حين استخدم عبارتي ( القهر ، والغلبة )، وفى رواية ( الضلع ) ، فهو عظيم لأنه يوحى من الله ، وكلامه معجز ، ولغته راقية ، ودعاؤه خاشع ، ومع هذا فالدعاء شامل شمول الحياة ، ويستوعب كل مفردات ومتطلبات الدولة وحاجات الناس ، وعميق عمق الإنسان ، لأنه يخاطب الذات الإنسانية ، ما أروعك يا رسول الله ، ولو فهموا قدرك لاحترموك ، ولو فهمت امتك دينها لأصبحت خير أمة ، تشهد على الناس بشهادة الوحي الصادق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock