السياسةالعمل والمستجدات

القراءة المقلوبة للحياة . عبد الرحمن بشير

القراءة المقلوبة للحياة . عبد الرحمن بشير
………………………. …………………………
لدينا فى بلادنا من يجعل الوحي تاريخا ( العلمانيون ) نموذجا ، ومن يجعل التراث وحيا ودينا ( السلفية الجديدة ) ، ومن هنا نجد الصراع محتدما ما بين من يحاول إخراج الأمة من الدين باسم المعاصرة ، والحداثة ، ومحاربة الذات ، واستنساخ أفكار الآخرين من خارج الذات ، وفرضها على الأمة ، ويرى أن ذلك هو طريقنا إلى النهضة ، وإلى جانب هذا الفريق جماعات دينية تناضل فى نقل التراث كما هو إلى الواقع ، وفرض هذا التراث على الأمة ، وهي تواجه مشكلات جديدة ، لم يعرفها السلف ، ولن يستطيع معرفتها بحال من الأحوال ، لأنها مشكلات مستجدة ، ومن هنا يحاول هذا الفريق تحويل التراث إلى ( وحي ) معصوم كما يقول الشنقيطي ، والحقيقة تضيع بين الفريقين ، وتتيه الأمة بين القراءتين ، فالجماعة الأولى ترى بأن الجماعة الثانية متخلفة ، وتعيش فى التاريخ ، بينما ترى الجماعة الثانية بأن الأولى تعيش فى خارج الدين ، ولكن الذى لا نشك فيه أنهما فى خطأ استراتيجي ، ولكن كيف ؟

نحن نعرف أن الوحي ليس تاريخا ، لأن الله الذى أنزل الوحي ليس جزءا من التاريخ ، وأنه سبحانه اختار الكتاب الأخير ( القرآن ) ليكون فوق التاريخ ، ولن يكون يوما ما جزءا من التاريخ ، ولن يمكن للتاريخ تجاوز الوحي الأخير ، ومن هنا يقع هذا الفريق تلك الخطيئة الإستراتيجية فى القراءة ، بينما يقع الفريق الثانى القراءة الخاطئة ما بين النص والفهم الناتج من النص فى مرحلة ما ، فالفهم للنص بشري ، ولكن النص ليس بشريا ، ومن هنا يكون من الخطأ الإستراتيجي الربط ما بين النص الرباني ، والفهم للنص البشري ، فالنص الرباني معصوم من الخطأ ، ومحفوظ من الله ، ومهيمن لجميع الشرائع السابقة ، ومبين للأحكام السابقة واللاحقة ، وشامل للحياة ، وكامل كمالا مطلقا ، ومتوازن بشكل غير عادي ، ولكن الفهم ينطلق من منهجية بناها العلماء فى فهم النص ، وفعلها الصحابة ، وأتقنها علماء المذاهب ، وهذا مذكور فى كتاب ( الرسالة ) للشافعي نموذجا .

نحن اليوم نمرّ فى مرحلة مهمة تكمن فى ( الإلهاء الحضاري ) ونشكو من ترهّل فكري ، كما نشكو كذلك من المراهقة الفكرية ، ونتعامل مع حضارة الغرب التى تعيش هي الأخرى فى مرحلة ما قبل ( السقوط ) ، وهي المرحلة التى يسميها علماء الحضارة مرحلة ( الغزيرة ) أي مرحلة التعامل مع الجنس البشري فى السطح وليس من العمق ، ومن هنا نجد أن القراءة العلمية للمنتوج الغربي غائبة ، وكذلك القراءة الفنية المنتوج الفقهي للإسلام شحيحة ، ولهذا يغيب من الواقع ( الوهج الفكري ) والسبب هو وجود علل فكرية عميقة فى الذات ، ومنها ، الشعور بالانهزامية أمام الآخر ، أو الدونية أمام التاريخ ، فالذهاب إلى الحضارة ليس تبعية للآخر ، كما أنه ليس تلمذة أبدية للتاريخ .

فى كتاب الله آية عجيبة غاية فى الطرح العلمي ، ومهمة فى التكوين التربوي ، وهي فى سورة البقرة ، وهي الآية المائة والرابعة والثلاثين ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تُسالون عمّا كانوا يعملون ) ، يقول السعدي رحمه الله فى تفسير الآية : تلك أمة قد خلت أي مضت ، ( لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ) أي : كل له عمله ، وكل سيجاري بما فعله ،لا يؤخذ أحد بذنب أحد ، ولا ينفع أحدًا إلا إيمانه وتقواه .

فى هذه الآية التى تكررت مرتين فى هذه السورة ، ترسّخ معنى دقيقا فى حياة المسلمين ، وتطرح مفهوما حضاريا من شأنه صناعة ( الوهج الفكري ) ، ورفع المستوى العلمي ، وتوجيه الطاقات نحو ( الألق الحضاري ) ، وليس فقط على العيش فى مربع التلمذة ، أو التبعية ، بل تصنع الآية ( الاستقلال الفكري ، والسلوكي ) لأجل الفعل الحضاري، وتطرح لتحقيق ذلك ما يلي :

أولا : أن التاريخ يصنع ، ولا يستنسخ ، فالناس الذين يصنعون التاريخ لا يعيشون فى موائد الناس ، سواء كان هؤلاء من الأسلاف ، أو من خارج الأسوار .

ثانيا : أن الأمة التى تصنع التاريخ ، تحقق فى الواقع أفعالا ، وليس فقط آماني ، ومن هنا ، فهي تسعى للكسب الحضاري ، ولا تعيش فى فقط فى المنتوج السابق .

ثالثا : إن الأمة العظيمة مسؤولة عن مكتسباتها ، وليست مسؤولة عن مكتسبات الأمم السابقة ، فالشعوب الحية تنظر إلى المستقبل ، ولا تعيش فى آلام الماضى .

هذه حقيقة تاريخية ، ولكن نحن المسلمين نعيش فى علّة فكرية خطيرة بحاجة إلى فهم متطور ، فهذه العلة تكمن فى ( عبء التاريخ ) وفى ( عبء المكان ) ، فكثير منا يفكرون ويخططون فى العودة إلى التاريخ ، وهذا أمر غير واقعي ، كما يفكر ويخطط كثير منا الخروج من التاريخ ولكنهم يريدون منا إلى الذهاب إلى مربع مخطط لنا من قبل الآخرين ، وكأنه لا مكان لنا فى هذا الوجود إلا أن نعيش فى عبء المكان ، أو فى عبء التاريخ ، ولكن الوحي يقدم لنا منهجية إخرى تصحح لنا القراءة المقلوبة ، وهي أن نتعامل مع التاريخ بفقه ، ومع ثقل المكان بمنهجية صارمة .

يشير القرآن إلى فقه التعامل مع التاريخ من خلال آية كريمة من سورة آل عمران ، وهي الآية المائة والسابعة والثلاثين ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ، هذه الآية نزلت بعد واقعة أحد ، وبعد أن كثر اللغط والحديث عن سبب الهزيمة ، فكانت هذه الآية التى صارت دستورا للأمة فى التعامل مع التاريخ ، ومع الأحداث ، وفيها ما يلي :

أولا : إن الزمن يمضى ، ولا يتوقف ، وأن الأحداث تجري فيه بلا توقف ، وأن البشر يمضون مع الزمن ، وفى كل لحظة من يمثل الخير ، ومن يرفع راية الشر ، ولا يتوقف الزمن للمتفرجين ، ولا للمنتظرين ، وكذلك الزمن لا يعمل ذاتيا ، فى داخله تناقضات ، وتدافع ، وتخاصم .

ثانيا : فى التاريخ سنن ، هناك سنن النصر ، ولدينا سنن سنن الهزيمة ، بل وفى التاريخ سنن الصعود والهبوط ، وسنن الانكسارات والارتفاعات ، ولكن هذه السنن بحاجة إلى كشف ، ومعرفة ، وهي سنن لا تحابي إحدا ، ولا تعمل فى مصلحة أحد .

ثالثا : هناك طريق واحد يؤدى إلى معرفة السنن ، وهو طريق الكشف ، وهذا الطريق يكون فقط فى القراءة الشاملة للتاريخ البشري ، وحينها نعرف كيف تنهض أمة ، ولماذا تسقط أمة أخرى ؟ ومن هنا قال تعالى ( فسيروا فى الأرض ) ، والأرض هنا شامل للكرة الأرضية مكانا وزمانا .

رابعا : لا تكفى القراءة وحدها ( فسيروا ) نحن نعرف أن قراءة التاريخ مهمة جدا فى الفهم ، والقراءة الشاملة أهم من القراءة الجزئية ، ولكن القراءة بدون فهم ونظر تيه وضياع ، قد نفهم كيف ؟ ولكن لا يمكن أن نفهم لماذا ؟ إلا بعد النظر العميق ( فانظروا ) .

يقول حسن البنا رحمه الله : ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، ولا تصادموا نواميس الكون ، فإنها غلّابة ، ولكن غالبوها ، واستخدموها ، وحوّلوا تيّارها ، واستعينوا ببعضها على بعض ، وترقّبوا ساعة النصر. ، وما هو منكم ببعيد ) .

هناك مفردة قرآنية عجيبة من سورة الحشر ، وهي جزء من الثانية من آياتها ، فقال تعالي : ( فاعتبروا يا أولى الأبصار ) ، فهذه الآية تعنى وجوب الاستفادة من الخبرة البشرية التراكمية ، ومن فهم الظاهرة البشرية فى عالم أفكارها وأحداثها وأشيائها وعلاقاتها ، والمحاولة الدقيقة فى أخذ العظة والعبر منها ، سواء كانت تلك الأمم سابقة أو معاصرة ، وهذا يوفّر على النخب الجهد ، ويختصر لهم الطريق ، ومن هنا يجب على النخب الفكرية قراءة التاريخ ، وقراءة ما وراء الجغرافيا لمعرفة السنن التى تحكم الحياة ، ولهذا يمكن للأمة الخروج من القراءة المقلوبة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock