Uncategorizedالثقافةالسياسةالعمل والمستجدات

قراءة إسلامية لمشروع الاستبداد السياسي ، وكيفية المواجهة . عبد الرحمن بشير

قراءة إسلامية لمشروع الاستبداد السياسي ، وكيفية المواجهة . عبد الرحمن بشير
………………………………………………………………………………………………………
لدينا قراءة إسلامية واضحة للمشروع السياسي المعروف بالاستبداد ، ولكن اختفى هذا المشروع عن القراءة بالنسبة للمثقفين بسبين ، الأول هو التفسير والتأويل ، والثانى يكمن فى القراءة التاريخية للمسألة ، وبهذين المنطقين انفصل الواقع عن الوحي ، وتأخر الوحي عن تفسير الواقع تفسيرا إسلاميا ، ومن هنا وجدنا الكثير من المثقفين المتأثرين بالفكر الوافد يبحثون التفسير عن القراءات الأخرى كالتفسير المادي لماركس ، أو التفسير العقلي لهيجل ، ولا يعرفون وجود التفسير الإسلامي للأحداث والتاريخ والواقع .

الاستبداد ليس شخصا ، وليس جغرافيا ، كما أنه ليس تاريخا ، بل هو مشروع سياسي له ثقافته وفلسفته ورجالاته ، كما أن له منطقه السياسي وتبريراته الفكرية ، ويصنع قناعاته ومنهجيته ، ولديه دولته العميقة ، وأدواته السياسية والمالية ، وعلاقاته الداخلية والخارجية ، ولهذا يجب أن نقرأ المشروع بعمق ، وندرس الموضوع بشمولية لنعرف مدى تغلغله فى النسيج المجتمعي، ولهذا طرح القرآن مشروعا متكاملا عن الإستبداد فلسفة ورجالا ، رؤية ومشروعا ، ثقافة وفكرا ، قيادة وقواعد ، والغريب أن أغلب الناس يتحدثون عن الإستبداد كأشخاص وهم يعيشون فى ثقافة الإستبداد ، ويواجهون المستبدين بأدوات الاستبداد ، ويحاربون فكرة الاستبداد بفكرة أكثر منها استبدادا ، فليس من الصواب أن نحارب الاستبداد العلماني باستبداد إسلامي ، أو العكس .

فى سورة القصص خبر عجيب عن الاستبداد السياسي ( النظام الفرعوني ) ، وتتناول هذه السورة من البداية حتى النهاية مسألة الاستبداد السياسي ظهورا ، واستمرارا ، وانتهاءا ، كما تتناول بشكل مكثف عن منظومة الاستبداد فلسفة وقيادة وقواعد ، وتحيط علما بقضية المناخ الفكري للاستبداد السياسي ، وتؤكد السورة بأن الاستبداد حالة ، وليس شخصا ، أوثقافة وليس مرحلة ، أو واقعا سياسيا وليس تاريخا ماضيا ، والمشكلة فى حقيقتها ليست فى الوحي كما يحسب البعض من الجهلة ، بل المشكلة كما دكر جارودي الفيلسوف المسلم الفرنسي رحمه الله فى العيون التى تحاول قراءة الوحي ، وليس الوحي ، فالعيون المريضة لا ترى الحقائق كما هي .

الاستبداد منظومة متكاملة .
……………………………………
للاستبداد أركان ستة ، فلا وجود للاستبداد بدون هذه الأركان الستة ، وبجموعها يكون الاستبداد مشروعا سياسيا يعيش ، ويستمر ، وبفقدانه واحدا منها يشعر المشروع تهديدا وجوديا على حياته ، ولهذا نجد يستجمع القوى لمحاربة من يمثل تهديدا وجوديا ، فالتهديدات التى تستفز مشروع الاستبداد نوعان ، هناك تهديدات خطيرة ، ولكنها ليست نوعية ، ولا تمثل كذلك تهديدا وجوديا ، ولهذا قد يقبل المشروع التعايش معه زمنا لأجل ترويضه ، أو إضعافه ، ولكن هناك نوع آخر ، وهو الذى يمثل تهديدا وجوديا ، فالمشروع لا يقبل التعايش معه ، بل يعلن الحرب الشعواء عليه بدون شفقة ، فما هي الأركان الستة لمشروع الاستبداد ؟

الأركان الستة للاستبداد السياسي
……………………………………………
أولا : وجود قواعد شعبية لديها قابلية مطلقة للاستبداد ، بل عندها قابلية للاستدلال والاستخفاف ( فاستخف قومه فأطاعوه ) ، يحاول المستبد بشكل دائم أن يمتحن مدى وجود القابلية للطاعة المطلقة ، فحين يرى ذلك من الناس يزداد طغيانا واستخفافا ، وهم يزدادون طاعة وانقيادا ، والعلة فى قوله تعالى ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) .

ثانيا : عدم وجود الوحدة ما بين الأطراف المختلفة من الشعب ، فالجميع يحذر من الجميع ، والكل يخاف من الكل ، ذلك لأن النظام البوليسي يزرع فى المجتمع ( الشك ) ، فلا وجود لثقة بين المواطنين ( وجعل أهلها شيعا ) فالنص الإلهي محكم ، ولَم يقل القرآن وجعل أهل الأرض مختلفين ، بل جعل لكل جماعة همومها ، وآلامها ، وأطماعها ، وبهذا صاروا شيعا .

إن هذا الخلاف المنهجي يجعل الشعوب التى تزخر تحت الطغيان السياسي شيعا ، ولكل واحدة من هذه الشيع أطماع سياسية مختلفة عن أطماع الشيع الأخرى ، والنظام الاستبدادي يحاول خلق ثقافة (الشيع ) بدل ثقافة ( المواطنة )، ولهذا يطالب كل فريق حقوقه ، ولا يطالب حقوق المواطنة ، ومن هنا يبقى النظام المستبد مستمرا مع معاناة الجميع ، ولهذا قال تعالى : ( وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم ، ويذبح أبناءهم ، ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين ) ، فلا يمكن للنظام المستبد أن يستمر على الحكم إلا من خلال هذه السياسة المفرقة للشعوب ، فيجعل طائفة منهم تحت التعذيب ، ويقتل العقول ماديا ومعنويا ، ويستحيى الضعفاء لخدمته ، ويتسلق الضعفاء للمناصب الفارغة عن المعنى ،والمحتوى ، ويقدمون للنظام الاستبدادي فرص البقاء من خلال الخدمات المجانية .

ثالثا : وجود نظام إعلامي من شأنه استخفاف العقول ، والحديث عن الاستقرار الوهمي ، وتضخيم دور الحاكم ، وتقليل دور النخب الفاعلة ، والمناضلة لتغيير العقول والنظام ، بل ويجعل ذلك خروجا من الدين ، وخطورة على الإستقرار ، ووراء هذه المنظومة الإعلامية مجموعة من الخبراء الفاسدين المتخصصين فى صناعة الأوهام .

رابعا : وجود رجال الدولة العميقة الذين يستفيدون من وجود الفساد السياسي ، ومن التعفن المنهجي الموجود فى نسيج الحكم ، والعلاقة بين الحاكم وهولاء الرجال والنساء من الدولة العميقة عضوية لا تنفصم ، ومن هنا نجد فرعون مخاطبا لهم فى قوله تعالى ( قال للملأ من حوله إن هذا لساحر عليم . يريد أن يُخرجكم من أرضكم بسحره ، فماذا تأمرون ؟ ) فيجعل نفسه حاكما شوريا ، وهو يعرف جيدا أن الجواب سيكون فيما يعضد أركان الدولة المستبدة ، ومن خرج من هذه الخطة فلن يبقى فى الدولة العميقة ، لأن المصالح بينهم متبادلة .

خامسا : وجود النخب المتعلمة الذين يدورن حول الحكم ومصالحه من رجال الدين ، ومن رجال الخبرة فى الحكم ، فالسحرة فى زمن فرعون يمثلون رجال العلم والدين ، وهامان يمثل رجال الخبرة والحكم ، ولهذا يردد السحرة دوما لفرعون : ( أئن لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين ؟ ) ، فيكون جواب الطاغية ( نعم ، وإنكم لمن المقربين ) ، هذا هو الحديث الحقيقي بين الطاغية ورجال الدين والخبرة ، ولكن عندما يتحدثون إلى الشعب فيغير الخطاب أسلوبا وهدفا ( يريد أن يخرجكم من أرضكم ) ، ( إنى أخاف أن يبدّل دينكم ) ، والنظام المستبد لا يملك مشروعا سياسيا من شأنه توزيع الثروة ، ومحافظة الوطن من الضياع ، وصناعة النهضة الشاملة ، ولهذا يستخدم للحكم أسلوبين شكليين ، فالجزرة للقلوب الضعيفة ، والنفوس الميتة ( إنكم إذا لمن المقربين ) ، أو السجن والتعذيب لمن حاول الخروج من عباءة الحكم بمعارضة فكرية أو سياسية ( لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنّك من المسجونين ) ، ويهدد السحرة إذا عرفوا الحق ومالوا إليه فيقول لهم : ( لأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلّبنّكم أجمعين ) ، ومن هنا نجد النظام الفرعوني يستخدم بلا هوادة الأسلوب الأخشن حين يشعر بالتهديد الوجودي ، ويستخدم الأسلوب الناعم حين يشعر بالوجود التكتيكي .

سادسا : وجود رجال المال الفاسدين فى الدولة العميقة ، وهم جزء من الفساد المنهجي ، بل ويحاربون لأجل أن يستمر هذا الفساد ، فلا يمكن أن ينتعش اقتصادهم الفاسد إلا من خلال هذا النظام ، ولهذا نجد فى سورة القصص وجود شخص اسمه ( قارون ) ، وهو يمثل رجال المال فى الدولة ، والغريب أن قارون ليس من الأسرة الفرعونية ، بل هو من بنى إسرائيل المعذبين فى دولة فرعون ، ولكنه مال إلى فرعون لمصالحه الخاصة ، وفضل مصلحته على مصالح قومه الذين يعيشون تحت الطغيان ، وفى هذا درس عميق بأن أغلب رجال المال لا يصنعون التغيير ، بل يخافون من التغيير لأسباب مصلحية .

إن الفساد السياسي يقوم على معادلة رياضية بسيطة ، ولكنها من حيث الواقع مركبة ، هناك ( حاكم مستبد + شعب لديه قابلية للاستخفاف + وجود رجال فى داخل الدولة العميقة + صناعة منظومة إعلامية متخصصة فى نشر الدجل السياسي + وجود رجال دين يبررون الفساد السياسي دينيا + وجود خبراء فى مقاومة المقاومة + وجود رجال المال والمافيا ) .

قبل قرون من الآن كتب مفكر أوربي كتابا رائعا سمّاه ( العبودية الطوعية ) كمت تم ترجمته عربيا أيضا ( العبودية المختارة ) ، وتحدث عن الشعوب الفاقدة للفاعلية ، والبعيدة عن فقه المقاومة ، والمحبة للعيش تحت الطغيان براحة البال ، والتى من شعاراتها ( من تزوج أمى فهو عمّى ) ، ومن أدبياتها ( السمع والطاعة حتى ولو جلد الظهور ، وأخذ المال ، وسفك الدماء ، وزنى الحاكم بالفتيات ، وسرق أموال الشعب جهارا ونهارا ) ، ومن أدبياتها السياسية ، فلا مقاومة للحاكم مهما طغى ، وأن ذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة ، وكأن الله الخالق خلق بعض الناس للحكم ، والبعض الآخر لخدمة الحاكم ، ويجعلون ذلك عقيدة ودينا ، ولديهم قابلية للعيش تحت الظلم ، ومن أدبياتهم السياسية ( الفتنة ) ، وكأن مطالبة الحقوق فتنة ، والسكوت عنها رحمة ، ولهذا عنون أحد المفكرين العرب كتابا له ( الاستبداد المعاصر ) ، ولدي اقتراح فى عنوان جديد ( صناعة الاستبداد السياسي ودور رجال الدين فى العالم العربي ) ، فهذا هو العنوان الذى يجب أن يكون كتابا جديدا فى زمن التيه السياسي .

بين العبودية الطوعية للشعوب المغلوبة على أمرها ، والحاكم بأمر الله فى الدولة علاقة عضوية ، فحين انقلب السيسي على الرئيس المنتخب شرعيا الدكتور مرسي كان إلى جانبه من الأيمن شيخ الأزهر الذى أعلن قبل إقالة مرسي بأيام أنه اعتزل ، ومن جانبه الأيسر رئيس الكنيسة القبطية ، فكل واحد منهم مثّل دورا رائدا فى تثبيت الحكم الفردي .

استفدت كثيرا من منهجية مالك بن نبي رحمه الله ، وهو أول من قرّر بأنه لا استعمار بدون وجود مرض وصفه بدقة ( القابلية ) ، وأوجد القاعدة الاجتماعية فى فهم ظاهرة الاستعمار ( القابلية للإستعمار ) ، ومن بعده قرر على شريعتى قاعدة أخرى مهمة ( القابلية للاستحمار) ، ومن بينهما أوجدت قاعدة قرآنية ( القابلية للاستبداد والاستغفال والاستخفاف ) ، وهذا هو منطق كتاب الله ، فلا يملك حاكم أن يحكم شعبا بدون وجود قابلية للاستخفاف والاستغفال والاستبداد ، وأول عمل فى مواجهة ولَك الأمراض القاتلة يكمن فى تحرير الشعوب من هذه الأمراض ، لن يكون فى إسقاط الأصنام ، بل فى تحرير العقول من عبادة الأصنام السياسية .

الاستبداد ظاهرة سياسية ، ولكنها فى العمق ظاهرة اجتماعية ، ومن وراءها عقيدة سياسية ، وثقافة متجذرة ، وليس من البساطة اجتثاثها من الواقع ، لأنه كلما سقط مستبد ، يتجمع كثير من الناس حول مستبد آخر ، فالعيش تحت الاستبداد مدة طويلة تجعل الحياة بلا نكهة ديمقراطية ، وصدق من قال : لو سقط المطر حرية ، لأخذ البعض مظلات من الحرية ، فالحرية حالة وجدانية عميقة قبل أن تكون مطلبا جماهيريا ، وثقافة سياسية قبل أن تصبح واقعا فى الحياة ، ومن هنا يكون من أولويات المرحلة ، مطالبة الحرية الفكرية قبل الحرية السياسية ، والنضال لأجل ذلك فى أرض الواقع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock