السياسةالعمل والمستجدات

ذهب العالم ، وبقي العلم . عبد الرحمن بشير الشيخ يوسف القرضاوي نموذجا

ذهب العالم ، وبقي العلم . عبد الرحمن بشير
الشيخ يوسف القرضاوي نموذجا
……………………………………………………. ………………………………………
قبل عقود ثلاثة أو أكثر بقليل ، تعرفت على كتب الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله ، فقرأت كلها ، أو على الأقل جلها ، وعشت مع أفكاره ، وتفاعلت معها ، ووجدت في الشيخ ضالتي الفقهية والفكرية ، وصحبت مع إصداراته ، بل وعشقت كتبه وفقهه وفكره ، ولم يكن هناك عالم أقرب إلى ذاتى منه سوى شيخه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، والذى وجدت فى أفكاره ذاتى ، ومن ذلك الحين لم يصدر كتابا أو رسالة إلا وكنت أقرأ ، بل وكنت أدرس ، وقرأت بعض كتبه أكثر من مرة ، بل وصارت بعض الكتب مراجع أساسية فى البحث والدراسة عندما أكتب ، أو أخطب ،أو أحاضر ، وكانت تمثل كتب الشيخ دائما عمودا فقريا فى مكتبتي العامرة فى جيبوتي ، والحمد لله .

استمعت إلى كثير من خطبه ، فكانت بالنسبة لي تمثل زادا روحيا ، وفكريا ، وعشت مع خطاباته التى تجمع بين العمق فى الفكر ، والحماسة فى الطرح ، وهذا نادر عند الخطباء ، فالخطباء يميلون نحو الحماس والطرح العاطفي ، بينما يميل المفكر نحو الهدوء والإقناع ، ولكن الشيخ رحمه الله كشيخه الغزالي رحمه الله يجمع بينهما بشكل غير عادي ، فأحببت أسلوبه ، وتأثرت كثيرا بهذا الأسلوب ، فالخطبة عند الشيخ درس وتوجيه ، علم وتربية ، فهم للدين وارتباط بالواقع ، وفى وقت متأخر ، وجدت خطبه ، وقد تحولت إلى كتب ، فقرأتها من جديد ، ووجدتها تزخر بالمعرفة والعلم ، ثم رأيت الشيخ فى قناة الجزيرة أسدا من أسود الدعوة ، وخاصة فى برنامجه الشهير ( الشريعة والحياة ) ، وحينها حوّل الشيخ الأفكار الإسلامية من عالم النخب إلى عالم الجماهير ، ومن ساحات التيار الإسلامي إلى باحات الشعوب والجماهير ، وأصبح البرنامج من أكثر البرامج شهرة وجماهيرية ، بل وأصبح الشيخ القرضاوي أكثر من مرة الشخصيات الأولى تأثيرا فى العالم ، فضلا فى العالم الإسلامي.

أحببت الشيخ ، لأنه لم يكن شيخا عاديا ، فقد كان يكتب بحرقة ، ويبكى كالطفل حين يتذكر عظمة الله ، أو حين يرى قصوره وتقصيره فى جنب الله ، ولم أجد إنسانا سريع الدمعة فى الكبار إلا الشيخ الغزالي ، والشيخ يوسف القرضاوي ، فهما يبكيان ، ولكن بكاؤهما مختلف ، ويكتب عن ( فقه الصلاة ) ، وفى وقت متأخر من حياته ، ويجمع فى ما كتبه قديما وحديثا عن الصلاة ، والكتاب مجلد ضخم ، وتصل صفحاته أكثر من سبعمائة ، ويكتب كذلك عن ( فقه الدولة ) ، وفى هذا الكتاب رؤية متقدمة عن الدولة ، ويتحدث التعددية فى الدولة الإسلامية ، ويتناول فيه رؤية الفقه للأحزاب ، وإمكانية وجود حزب غير إسلامي فى الدولة الإسلامية ، والرجل يبدع فى أسبقية ( الحرية ) على ( تطبيق الشريعة ) ، ويعلَل فى ذلك بأن الأحرار هم الذين يطبقون الشريعة ، وليس العبيد ، والحر من ملك قوت يومه ، ونجح فى تقرير مصيره ، وليس الحر من يتحرر عن القيود والضوابط كما يفهم الجهلة أو السطحيون من الناس .

كتب الشيخ ، وأبدع فى مجال الفقه ، فكان كتابه ، وما زال ( فقه الزكاة ) من أخطر ما كتبه ، وربما لم يسبق إليه أحد فى كتابة فقه الزكاة بهذا الشكل ، ولم يكتب بعد أحد كما كتبه ، فما زال الكتاب كما قال الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله كتاب القرن ، وكتب قبل عقدين كتابه ( فقه الجهاد ) وهو لا يقل أهمية منه ، بل هو يمثل اليوم حاجة أكيدة ، فهناك من يخطط إلغاء الجهاد عن خريطة الفقه خوفا من الآخر ، ومنهم من يحارب العالم كله باسم الجهاد ، ولهذا كان هذا الباب بحاجة إلى كتاب جديد ، ولكنه ينطلق من روح الإسلام ونصوصه ، ومن فقه الكبار ومقاصد الشريعة ، فسدّ هذا الكتاب ثغرة كبيرة ، ويعتبر هذا الكتاب من إبداعات الشيخ القرضاوي ، وقرأته قبل وفاة الشيخ بأسبوع واحد ، وأنهيت قراءته للمرة الرابعة ، ولكن هذه المرة ، قرأته بعمق ، وتوقفت عند بعض اجتهاداته الجديدة ، وفتوحات الشيخ فى هذا الباب .

سطّر الشيخ كتبا تحمل دلالات دقيقة ، وفيها معاني عميقة ، وتصويب للمسار والمسيرة ، فكتب فى ترشيد الصحوة الإسلامية ، لأن الشيخ عرف ومن وقت بعيد أن ثمة مشاريع داخلية وخارجية تخطط لإفشال الصحوة ، وصناعة المعارك الجانبية للتيار الاسلامي ، وقتل الطاقة المسلمة فى معارك جزئية ، وحينها بدأ الشيخ يكتب كتبه عن الصحوة بين المراهقة والرشد ، والصحوة وهموم الوطن العربي والإسلامي ، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشرع ، والتفرق المذموم ، وكتابه الفذ ( أولويات الحركة الإسلامية فى المرحلة المقبلة ، ولم يتوقف الشيخ عند هذه النقطة ، بل كتب عن ( الحلول المستوردة ، وكيف جنت على أمتنا ؟) ، ثم كتب عن الحل الإسلامي فريضة وضرورة ، بل وأصدر كتابا عن بينات الحل الإسلامي ، وعن أعداء الحل الإسلامي ، كل ذلك يفعل ، ولكن أسلوب الشيخ هو الذى يجعلك تعيش معه ، فكل كتاب يأخذك إلى الآخر ، لأن لديه منهجية علمية صارمة ، فالرجل لا يستخدم فقط لغة عاطفية ، بل يستخدم لغة أكاديمية مرتفعة تجمع بين الأصالة والمعاصرة .

يواجه الشيخ سهام الأعداء من الداخل والخارج بثبات ، ويتحرك نحو أهدافه بخطى هادئة وثابتة ، ولا يتزحزح من الوسطية مهما كانت كثرت عليه سهام الأعداء ، فيكتب بعلم ، ويبشر بحكمة ، وينصح بلا خوف وخشية ، وينطلق نحو غاياته بلا تردد ، فيكتب عن ( الصحوة بين المحاذير والآمال ) ، ولا يتناول فى كتبه عن المخاوف فقط كما يصنع بعض الفاشلين ، أو يكتب عن الآمال كما يفعل بعض أهل الأحلام فقط ، فهو يعيش دوما بين الألم والأمل ، بين الرجاء والخوف ، وحين لاحظ الهجمة الشرسة على تاريخ الأمة ، وخاصة على تاريخ الدولة الأموية التى أسسها الصحابي الجليل ( معاوية بن أبي سفيان ) رضي الله عنه ، كتب كتابه النوعي ( تاريخنا المفترى عليه ) ، وكتب الشيخ عن السياسة الشرعية كتابا يعتبر مرجعا فى الباب ، وينطلق من فهم البنا رحمه الله لدور ولي الأمر فى الدولة ، فكان الكتاب ( السياسة الشرعية فى ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ) ، كما كتب أيضا كتابه المهم عن علاقة الدين بالسياسة ( الدين والسياسة ، تأصيل ورد شبهات ، ) ، و له أيضا كتاب مهم فى مواجهة علمنة الوضع الإسلامي ( الإسلام والعلمانية ، وجها لوجه ) وكتب فى بداية نهاية الحروب الباردة ، وبداية العالم الجديد كتابه ( خطابنا الإسلامي فى عصر العولمة ) ، وكتابه ( المسلمون والعولمة ) .

أسس الرجل خطاب الوسطية ، وفقه الاعتدال ، فكتب سفرا رائعا حول هذا ( فقه الوسطية الإسلامية والتجديد ) وكتب عن ( الوطن والمواطنة فى ضوء الأصول والمقاصد الشرعية ) وكتب حول هذا المفهوم ( من أجل صحوة راشدة تجدد الدين ، وتنهض بالدنيا ) فكان جل خطابه منحازا للوسطية ، فكتب للأقليات فقها خاصا ( فقه الأقليات ) وناقش مسألة الوجود الإسلامي فى الغرب ، ولم ير أن هذا الوجود طارئا ، بل هو وجود طبيعي ، لأن رسالة الإسلام عالمية ، وأرض الإسلام ليس محصورا فى الوطن العربي والعالم الإسلامي ، بل الأرض كله جغرافية لنشر الإسلام والعيش فيه ، فكتب عن ثقافة الأمة بين الإنفتاح والإنغلاق ، وتعامل مع النص النبوي بشكل مختلف ، فلم يرفض النصوص النبوية الثابتة كما يصنع الرويبضات ، ولم يقبل كل المرويات ، فكتب كتابه العلمي مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي ( كيف نتعامل مع السنة النبوية ، معالم وضوابط ) ، وكتب كتابه غير العادي ( الرسول والعلم ) ، وكتابه ( السنة النبوية مصدر للمعرفة والحضارة ) ، وله وقفات مع مسألة الفتوى فى الأمة ، والاجتهاد ، فوجدنا فى مكتبته ( الفتوى بين الانضباط والتسيب ) ، وكتابه ( موجبات تغير الفتوى ) ووقف مع كلام المتقدمين ، وخاصة مع العلامة ابن القيم رحمه الله ، ولكنه أضاف وأبدع ، واجتهد وأصاب فى هذه المسألة الدقيقة ، والتفت الشيخ إلى مسألة الاقتصاد الإسلامي ، فكتب عن فقه الزكاة ، وعن الربا ، وعن دور الزكاة ، وعن دور القيم والأخلاق فى الاقتصاد ، وكتب كتابا تحذيريا لما يسمى بديوان الزكاة ، وبيوت الزكاة في العالم الإسلامي ( لكي تنجح مؤسسة الزكاة فى التطبيق المعاصر ).

ناقش الشيخ قضايا عالمية ، وكتب عنها رسائل وكتبا مثل قضية البيئة ( رعاية البيئة فى شريعة الإسلام ) ،والتطرف العلماني فى مواجهة الإسلام ) وأخذ كنموذج لتركيا وتونس ، ( ومشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ؟ ) كما ناقش الشيخ بعمل وعمق مسألة حاجة البشر إلى الإسلام ، فكتب عن ( عوامل السعة والمرونة فى الفقه الإسلامي ) ، وعن ( شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان ) وعن ( حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا ) ، وعن ( الإسلام بين شبهات الضالين ، وأكاذيب المفترين ) وعن ( الخصائص العامة للإسلام ) ، وعن ملامح المجتمع الإسلامي الذى ننشده ) .

لقد ترك الشيخ من وراءه مكتبة ضخمة ، حيث كتب الأعمال الكاملة ، وهي أكثر من مائة مجلد ، وأكثر من ثلاثمائة عنوان ، وهناك أكثر من مائة رسالة جامعية عليا حول فقه الشيخ وفكره ، وترك من وراءه مئات من تلامذته الذين يحملون علمه وفكره ، وهم موجودون فى الخريطة الجغرافية العالمية ، وترك كذلك من وراءه ملايين من محبيه ،. ومريديه ، فالرجل ترك الدنيا بعد قرن عاشه بالعمل والعلم ، بالنضال والاجتهاد ، ولم يغب عن الساحة ولو لحظة ، فمات وهو يكتب ويقرأ ، وسلّم روحه لربه وهو يراجع أفكاره ، فمات مبتسما ، لأنه رأى بعض ثماره ، ومات مبتسما ، لأنه رفض أن يستسلم ، ولكنه سلّم الراية لرجال تربوا على أفكاره ، وترك الدنيا ، ولكنه كتب عن القدس ، ورفض التطبيع ، وحرم بعلم الذهاب إلى القدس حتى تتحرر ، وترك الدنيا ، ولكنه بعد أن علّم الأجيال من وراءه فقه الأولويات ، وفقه الموازنات ، وفقه التغيير ، وفقه الحضارة ، وفقه الدولة ، وفقه التعايش مع الآخر ، وناقش حقوق الآخر فى الدولة المسلمة ، ودافع عن حقوق الناس من المستبدين ، ورفض الاستبداد ، وزرع عشق الحرية فى القلوب ، ودافع عن حركة الاخوان ، وعن التيار الإسلامي ، وزرع فكرة التقارب بين القوميين والإسلاميين ، وحارب اسقاط الدولة بلا بديل ، وواجه الفوضويين بعلم ، وكل ذلك فى مسيرة طويلة .

ترك الدنيا بعد أن كتب كتابه ( مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال ) ، وعن ( الايمان والحياة ) وعن ( العبادة فى الإسلام ) ، وعن ( نحن والغرب ) ، إنه يحمل فكرا دقيقا ، ورؤية شاملة ، وعلما موسوعيا ، ولغة تجمع بين التركيب والتبسيط ، وفهما ثاقبا ، وعقلا متوقدا ، وروحا وثابة ، وقلبا واسعا ، ويقظة لا تتوقف عن الحركة ، وترك الدنيا بعد أن بنى مؤسسات ، وبنى فكرا متماسكا ، ومن حقه أن ينام قرير العين عند رب رحيم وغفور ، وأن يلقى محمد وصحبه ، وأن يعيش فى السماء مع رجال الدعوة والنضال ، مع محبيه ابن تيمية ، وابن القيم ، ومع الغزالي والجويني ، ومع ابن عبد الوهاب والبنا ، ومع الجيلاني وسيد قطب ، ومع أحرار الأمة وعظمائها عبر التاريخ .

سلام عليك ياشيخ الأمة ، كنت رجلا فى أمة ، وأمة فى رجل ، وسلام عليك ، كنت ابنا بار الغزالي المعاصر ، وكتبت عنه كتابا كاملا ، وكنت تلميذا نجيبا للندوي ، وكتبت عنه كتابا كاملا ، وكنت محبا لا بن باز ، والعثيمين ، وكتبت عنهما مقالين طويلين ، وكنت بلا شك رجلا لا يحمل الحقد لأحد ، وهذا مما تعلمت منه ، فقد أوذيت كثيرا ، ولكنك تجاوزت عن كل ذلك ، وتربينا ، وما زلنا نأخذ منك الأدب قبل العلم ، والحمد لله .

سلام عليك ، أنا أحب القرضاوي رحمه الله ، ولكنى لست قرضاويا ، فهو الذى علمنى حين قال : أحب العلماء إلى قلبى ابن تيمية ، ولكنى لست تيميا ، فالحق أحب إلينا من القرضاوي وابن تيمية رحمهما الله ، سلام عليك وعلى أهلك من الرجال والنساء ، وعلى الذين وراء القضبان بلا ذنب اقترفوه ، وعلى الذين يعيشون فى كل مكان ، وسلام على أحبابك أينما كانوا ، وإلى اللقاء بإذن الرحمن فى جنات الخلد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock